تعلمنا نظرية الوجود في الفلسفة أن نميز بين ما هو كائن أو ماهو غير كائن، أو بتعبير آخر بين الوجود والعدم، أما الأخلاق فتعلمنا أن نميز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وهذا المفهوم الأخير محل جدل كبير في الفلسفة. فهو بالطبع لا ينتمي إلي ما هو كائن بالفعل، كما أننا لا يمكن أن ننسبه ببساطة إلي ما هو غير كائن لأن هذا يعني أن من العبث الانشغال به. هذا المفهوم نشأ من التمييز بين واقع نعيشه بالفعل وواقع مأمول نتوق إليه. هو مفهوم لا معني له لو نظرنا إلي الطبيعة أو الكون، فما يهم هنا ما هو كائن فقط. ولذا فهو يخص النوع الإنساني وحده ويحمل في داخله معاناة الإنسان وتطلعاته. هذا المفهوم هو الذي يسمح ببلورة كل القواعد الأخلاقية الضرورية للعيش المشترك مثل الصدق والتراحم. ولكي تكون هذه القواعد عامة وملزمة يجب أن تتحرر من التبعية للواقع المعاش. فعندما نقول ينبغي قول الصدق لا يمكن الاعتراض علي هذه القاعدة بأنها غير واقعية، لأن البشر يكذبون في الواقع ليل نهار. ما ينبغي أن يكون إذن ليس ناتجا عن الواقع ولا تابعا له، إنه يحدد القواعد الضرورية الموجهة للسلوك الإنساني بحيث يقصد فعل الخير وتجنب الشر. ولهذا ينبغي أن يتصف بمجموعة من الصفات لكي يكون ذا تأثير، وهي أن يكون مطلقاً أي ملزماً دائماً وفي كل مكان وعاماً أي موجهاً لجميع البشر .
ولكن قد ينشأ في الذهن اعتراض: ما الفائدة من صياغة مثل عليا وأفكار جميلة لكنها تظل صورية ولا صلة لها بالواقع؟ مثل هذا الاعتراض شاع في تاريخ الفلسفة لنقد جمهورية أفلاطون التي هي نموذج خيالي من ابتكار صاحبها لكنها لا تصف شيئاً في الواقع. وقد عبر الفيلسوف كانط عن ضيقه بهذا النقد مشيرا إلي أن هذه الطريقة التي اتبعها أفلاطون هي أفضل الطرق لبيان مظاهر الخلل في العالم الواقعي. وعنوان يوتوبيا الذي اختاره توماس مور لكتابه يعني لامكان اي الحياة الاجتماعية التي يصفها هي محض خيال. ولكن هذا الكتاب كان ملهما لطاقة جبارة عملت علي إصلاح الواقع فيما بعد. ولهذا سار علي نهجه كتاب آخرون مثل سويفت وفولتير. والنظر إلي الواقع انطلاقا مما ينبغي أن يكون نطلق عليها النظرة المعيارية في مواجهة النزعة الوصفية التي تكتفي بوصف ما هو كائن بالفعل. أي إن ماينبغي أن يكون لا يشير فقط إلي القيم الأخلاقية وإنما إلي المعايير التي يمكن من خلالها أن نضع أيدينا علي مظاهر الخلل في الواقع. فدرجة 37 مئوية هي معيار للحرارة العادية للإنسان أقل أو أعلي من ذلك يعني أن هناك خللاً. وينطبق هذا القول علي الاقتصاد والتعليم والصحة وباقي مجالات الحياة الإنسانية.
الظرف الذي تعيشه الإنسانية الآن حالة دالة علي هذا المبدأ. فهناك أمور كنا نتصورها طبيعية ومقبولة فإذا بها تبدو لنا فجأة كارثية ولا تليق بالحياة البشرية. كما أن هناك نوازع بشرية متدنية رفعناها إلي مرتبة المعايير العامة الملزمة للجميع مثل الربح. ولاشك أن تعييننا لهذه المظاهر بوصفها خللا، نابعا من فكرة مثالية في أذهاننا عن الإنسانية. في هذه الشدة من الطبيعي أن يجد الإنسان مدفوعاً إلي بلورة أوضح لما ينبغي أن يكون. والدافع هنا أمران: أولهما أن هذه الشدة لا تلم بشعب معين يكفينا التعاطف معه، ولا تخصنا وحدنا بل جميع البشر، والدافع الثاني أن النفسية الإنسانية تعايش اليوم عمليا شعور السجين، فمن المعروف أن السجين يطرح خططاً لحياته بعد الإفراج ويضع لنفسه معايير جديدة تجعله يسلك سلوكاً مختلفاً. وقد بدأنا بالفعل نلمس إرهاصات لهذا النزوع، فالكل يأمل أن تسير الأمور خلافاً لما هي عليه الآن. وهذه التصورات لما ينبغي أن يكون تطول النظام السياسي الدولي والاقتصاد والصحة للجميع.
وازاء هذا الميل يعود السؤال من جديد: ما الفائدة في أن نصيغ أفكارا جميلة وعالما مثاليا بينما يسير الواقع طبقا لمقتضيات أخري؟، يجدر بنا هنا أن نشير إلي سمة في مفهوم ما ينبغي أن يكون تمنعه من أن يتحول إلي مجرد أحلام يقظة وهي القابلية للتحقيق، بمعني أن هناك إمكانية لأن يصبح واقعا حقيقيا. فحين نشحذ أذهاننا لكي نطرح ما ينبغي أن يكون عليه العالم ينبغي أن نجهد أنفسنا لوضع تصورات قابلة للتحقيق.
درس أخير نتعلمه من هذه الشدة هو أن الاختلافات الثقافية لا تمنع من أن تكون هناك قواعد أخلاقية ملزمة لجميع البشر، بحيث يكون لخير الآخرين أولوية علي مصلحتنا الخاصة.
لمزيد من مقالات أنور مغيث رابط دائم: