رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

من ولادة العيادة إلى ولادة الحجر

كتبت على هذه الصفحة منذ أسبوعين مقالاً حول التغيرات التى حدثت فى عولمة المرض، وقد فاجأنى الأستاذ الكبير شوقى جلال بهاتف أسعدنى كثيراً ناقشنى فيه فى مضمون المقال، وقال فى أثناء الحديث يبدو أن العقل يدمر ذاته. لقدجعلتنى هذه العبارة أفكر كثيراً فى ما ذكره أنصار مدرسة فرانكفورت حول استدارة العقل على نفسه مكبلاً ومحاصراً الإنسان .وفكرت فى أن أسوق حديثاً حول هذا الموضوع .ولكن مسار التفكير فى الدور الذى يعمل به العمل على تأطير الحياة ورسم مساراتها، والتفكير ايضا فى الظروف المرضية التى يعيشها العالم الآن،ذهب بى هذا المسار وتلك الظروف إلى كتاب ميشال فوكو (1926- 1984) ولادة العيادة الذى نشره عام 1963بعد ان كان نشر كتابه الشهير: تاريخ الجنون فى العصر الكلاسيكى عام 1961. ولكن ما علاقة ولادة العيادة بما نحن فيه من حجر صحى يشمل ملايين البشر حول العالم، خوفاً من وباء قاتل تتسابق الدول والحكومات فى محاضرته والقضاء عليه؟

وأجيب عن السؤال بسؤال: هل ستعمل الظروف التى يعيشها العالم الآن, على إعلاء شأن الأطباء ووضعهم فى مقدمة الصفوف، وفرض أساليب للضبط والمراقبة ترتبط بخطاب المحافظة على صحة المجتمع وصون حياة المواطنين، والسباق نحو تطوير عقاقير جديدة لمواجهة مخاطر الفيروس المجهول, هل هذه الظروف وغيرها سوف تغير أولويات الرقابة والضبط، فتصبح الصحة وأساليب الوقاية, بما فيها من إمكانية الحجر, هى الوسيط الذى تعبر منه أيديولوجية الضبط الاجتماعى والمراقبة الاجتماعية؟ السؤال طويل ولكن الإجابة عنه أطول.

تدعونا الإجابة إلى أن نعود اذن إلى كتاب ولادة العيادة. لقد أسهم هذا الكتاب فى تطوير نظرية الضبط والرقابة التى التى تطورت اكثر فى كتاب المراقبة والمعاقبة. فإذا كانت المراقبة قد تحولت إلى مراقبة غير مباشرة تبتعد عن أساليب التعذيب التى كانت مألوفة من قبل, فإن ولادة العيادة قد أضفت الطابع الإنسانى على نظم المراقبة، عن طريق العناية بالجسد وبصحته واكتماله، والسعى الدائم نحو تطوير أساليب علاجية أكثر نجاحاً، وذلك لكى يستمر الإنتاج البيولوجى القادر على إعادة إنتاج الحياة ومتطلباتها . يبدو خطاب الصحة والمرض هى ولادة العيادة وكأنه جزء من منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى، يحقق من خلالها المجتمع اطمئنانه على الجسد العامل المنتج. فهو من ناحية يراقبه مراقبة منظمة ذكية، ويعاقبه بأساليب مهذبة لا عنف فيها ولا اضطهاد، ويحقق له من ناحية اخرى الأمن الجسدى بطريقة إنسانية، وهو بذلك يسيج له حياته ويخضع جسده المسكين إلى دوائر متعددة من الحوكمة.يبدو العقل الإنسانى هنا وكأنه يدبر حاله بذكاء شديد فهو يقدم نفسه على أنه ينمو ويتطور نحو مزيد من الإنسانية اذيحول نظام العقاب من التعذيب إلى التهذيب ونظام مراقبة الصحة من القتل والعزل إلى الرعاية ، وكل ذلك يحدث ضمن أساليب المجتمع فى تنظيم السكان وبناء النظام والانضباط اللازم لاستمرار العمليات الإنتاجية. ولكن الظرف الذى يعيشه العالم الآن قد أدخل نظام العيادة فى أفق جديد. لقد أصبحت العيادة (وهى تستخدم هنا للإشارة إلى النظام الصحى برمته) فى مقدمة الأولويات، وأصبحت محط أنظار العالم، وأصبح القائمون عليها أبطال العصر وشهداءه، وأصبحت الدول والحكومات تتسابق فى تنظيم المستشفيات وإعدادها وفى توفير الأدوية والمستلزمات الصحية وفى تقديم الدعم المادى للبحث العلمى الذى يتسابق للوصول إلى لقاح أو علاج للمرض القاتل. ثم انتقل هذا الاهتمام إلى عمليات حجز جزئى أو كلى على السكان، وتشديد الرقابة على الحدود، والحد من التدفقات السكانية. كل هذه الإجراءات التى أخذت ضد فيرس كورونا الذى ينتشر فى العالم على نحو غير مسبوق، نقلت نظام المراقبة الصحية من نظام العيادة إلى نظام الحجر، فأصبح المجتمع كله يبدو وكأنه عيادة كبيرة، وانصاع الناس من كل الدنيا لنظم الحجر التى فرضتها الحكومات, وأصبح الخوف والهلع هو سيد الموقف، يسيطر على الكل خوفاً من الهلاك، ويسيطر على القائمين على شئون الاقتصاد الوطنى أو العالمى خوفاً من حدوث انهيارات اقتصادية تدخل العالم فى كساد قد يطول أمده.

ويجمع معظم المحللين إلى أن هذا الظرف الجديد يخلق وضعاً جديداً، وأن العالم بعده سوف يكون عالماً مختلفاً، مع إشارات هنا وهناك إلى بروز دور الخبراء ودور البحث العلمى. وقد يكون كل هذا صحيحا ولكن يبقى السؤال حول دور هذه الظروف فى تغيير نظم المراقبة والضبط. أعود مرة اخرى إلى فكرة ولادة العيادة وأجادل بالقول بان الظرف الجديد الذى نحن بصدده قد يعمل فى المستقبل على توسيع مفهوم للعيادة يركن إلى مفهوم الحجر، بحيث يولد الحجر كنظام للمراقبة والضبط السكانى والاجتماعى.وهنا تتحول مفهومات الصحة والرعاية الصحية والتأمينات الصحية والوقاية الصحية والدوائية، تتحول هذه المفاهيم وغيرها إلى وسيط إيديولوجى لدعم عمليات الضبط والمراقبة. ويتوقع أن يتم إحكام هذا النظام الجديد بصيغ تشريعية تنظم أساليب الحجر وضروراته وتعطى لصانع القرار صلاحيات كبيرة فى ضوابط الحجر والرقابة على الصحة, وضوابط منع التجمعات حفاظاً على الصحة وتفادى نقل العدوى وتفشى المرض. ولا يغيب عن النظر ذلك التداخل الكبير بين الجوانب السياسية والاقتصادية والصحية، وما يفرزه الظرف الراهن من تفاعلات سياسية من نمط جديد، ومن تقدير للأمور على نحو مختلف، ومن تحديد للأولويات أيضاً على نحو مختلف. ولاشك أن ولادة الحجر كمفهوم للضبط والرقابة بوسائل أيديولوجية صحية سوف يعمق هذا التداخل لفرز سياسة بيولوجية جديدة .لذلك فإنه يتوقع أن يفرز خطاباً سياسياً جديداً، وأجندات سياسية جديدة وأطر قانونية دولية جديدة تمهد لاتفاقيات دولية جديدة.وعلى نفس المنوال فسوف يتخلق اقتصاد سياسى للبيولوجيا يربط الخطاب السياسى الجديد بقوى السوق وحركة راس المال وعمليات الإنتاج والاستهلاك، وعمليات الاستثمار والإدخار أيضاً.

وبعد فهل ستطل علينا الحداثة بوجه جديد مصقول؟ وفى أى مسار يسير عقلها الذى لا يكل ولا يمل :هل سيواصل إبداعاته من أجل تجديد نفسه ام يسعى الى قتل نفسه، ام يتفنن فى ولادة الحجر على نحو جديد؟.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: