رحم الله الإمام الشافعى، الذى قال ذات يوم: إن فى الأسفار خمس فوائد، وليرحم الله أيضًا، تلك الأيام العصيبة التى نعيشها فى مواجهة كورونا، وقد أعادتنا ساعات الحظر الطويلة، إلى مكتباتنا المنزلية العامرة، بعدما ضاعت على ما تحمله أرففها من قيم الكتب، وسط طوفان الأخبار الذى لا يهدأ، وهوس السوشيال ميديا.
رحم الله ساعات الحظر الطويلة، على ما تفرضه على النفس من كآبة، فقد قادتنى صدفة إلى ذلك الكتاب المبهر، لمحة عامة إلى مصر، الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية عام 2001، ترجمة وتحرير محمد مسعود، وتقديم الدكتور أحمد زكريا الشلق، رغم أننى لا أعرف حتى الآن متى اشتريته، وكيف اختفى، بين ما تضمه مكتبتى العامرة بعشرات الكتب، طوال تلك السنوات.
هو كتاب مهم ومبهر، ليس فقط لأن مؤلفه هو أنطوان بارتلمى، المعروف باسم كلود بك، مؤسس أول مدرسة حديثة للطب فى مصر، وإنما لأن الكتاب الذى نشره فى باريس عام 1840، يعد- بنظر كثيرين- مكملًا للجهد الكبير الذى بذله علماء الحملة الفرنسية والمجمع العلمى المصرى، وما انتهى إليه هذا الجهد من إنجاز كتاب وصف مصر، الذى يصنف- حتى اليوم- باعتباره المجلد العمدة فى موضوعه ومضمونه، بما يقدمه من وصف شامل لمختلف مناحى الحياة فى مصر عبر التاريخ، قبل ما يزيد على مائتى عام.
لا تتوقف مآثر كلود بك، وما قدمه لمصر خلال سنوات عمله بها، عند تأسيس أول مدرسة للطب فى البلاد، أو تسهيله مهمة البعثات العلمية التى أرسلها محمد على إلى أوروبا، وإنما تمتد أيضًا إلى هذا المجهود البحثى، الذى سعى من خلاله، إلى تقديم صورة بانورامية لبلادنا منذ عصر الفراعنة، حتى تجربة النهضة العلمية والعسكرية التى عاشتها خلال فترة محمد على، وهى الفترة التى عاصرها كلود بك، وكان واحدا من أبرز المشاركين فيها، على الجانب العلمى، ممثلًا فيما بذله من جهد كبير فى ترجمة عدد غير قليل من كتب الطب الأوروبية، خاصة الفرنسية، إلى اللغة العربية، فضلا على مهمة الإشراف على المبعوثين المصريين إلى باريس، وتوفير الرعاية الكاملة لهم طوال فترة دراستهم، وحتى عودتهم إلى مصر، كأول نخبة نهضوية فى البلاد.
قضى كلود بك نحو عقدين من الزمان فى مصر، جمع خلالهما تلك المادة العلمية والوثائقية التى لا تخلو من تحليل اجتماعى وسياسى واقتصادى، لرحلة الحياة فى المحروسة، عبر قراءة مدققة للتاريخ والجغرافيا، وعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع، بل والأديان أيضا، قبل أن يفرد بابًا كاملًا فى الكتاب للملف الذى تخصص به، وهو صحة المصريين والأمراض التى كانت سارية فى البلاد حتى منتصف القرن الثامن عشر، مثل الجدرى، الذى كان يحصد وحده نحو ثلث عدد الأطفال، حتى إن عدد سكان مصر لم يكن يزيد- حتى رحيل الحملة الفرنسية- على ثلاثة ملايين نسمة!
يقدم كتاب كلود بك، صورة تفصيلية عن فترة حكم محمد على، والطريقة التى بنى من خلالها نهضة مصر العلمية والعسكرية، رغم المؤامرات والمكائد التى دبرها له كهنة الدولة العثمانية فى الأستانة، وكيف استطاع بحكمته وذكائه، أن يجهض كل هذه المؤامرات ويعزز من قوة دولته، معتمدًا فى ذلك على ملامح شخصية رجل، شديد التمسك بدينه من غير تعصب ولا تنطع، سهل الأخلاق يتحرى البساطة، لا يجد خير العون إلا فى نفسه، ولا يتلقى الوحى إلا من حدة ذكائه وطيب سريرته، ولعلها السمات التى جعلت من محمد على، واحدًا من أعظم الشخصيات التى حكمت مصر، فى العصر الحديث، بلا منازع.
لمزيد من مقالات أحمد أبوالمعاطى رابط دائم: