الفيروس فى كل مكان، يكمن متربصا بالبشر، يتطلع لخطف حياتهم، بعد أن يفرض عليهم آلاما لا تحتمل. لقد رأيناه يفعل بذلك بوحشية فى ووهان الصينية، وبعد ذلك فى ميلانو الإيطالية، ومن هناك إلى كل بلاد الاتحاد الأوروبى وجواره، قبل أن يكتسح الولايات المتحدة. رأينا كل ذلك بأعيننا، لكن المدهش أننا لم نفهم ما شهدناه معا بنفس الطريقة، ولم نستخلص منه الدرس نفسه، فحتى عندما يتربص الموت ببنى البشر، نجدهم مختلفين فيما بينهم، فعن أى بشر وأى إنسان نتحدث؟ فى مواجهة الأزمة نصحنا المتخصصون فى الأوبئة بالالتزام بالتباعد الاجتماعى وبتنفيذ حجر صحي، يتضمن تقليل فرصة التفاعل البشرى إلى أدنى حد ممكن. تباينت مواقف البشر إزاء هذه الإجراءات، فعكست المواقف المختلفة أصنافا مختلفة من البشر. هناك الإنسان الاقتصادى الذى يرى أن العمل وإنتاج الثروة هو النشاط الإنسانى الرئيس، والذى بدونه يكف الإنسان عن أن يصبح إنسانا. طبعا هناك البشر الذين يعتبر التوقف عن العمل بالنسبة لهم رفاهية لا يحق لهم التفكير فيها، لأن التوقف عن العمل معناه التوقف عن كسب أسباب الحياة، ومن ثم الموت جوعا. أنا لا أتحدث عن هؤلاء المحرومين من الحق فى الاختيار، لكنى أتحدث عن المقتدرين من البشر الذين تشغلهم الرفاهية الاقتصادية وإنتاج الثروة أكثر من أى شيء آخر. لقد عبر الرئيس الأمريكى ترامب عن هذا الصنف من البشر, فلعدة أسابيع قلل الرئيس الأمريكى من جدية التهديد الذى تمثله كورونا، وبعد أن وجد نفسه مضطرا لإعلان إجراءات طارئة، وجدناه يستعجل إنهاء الإغلاقات، ويشجع العودة السريعة للعمل. تحدث الرئيس ترامب عن أن تناقص الثروة وفقدان العمل يؤدى إلى الانتحار، كما لو كان يقول: فلنمت ونحن ننتج الثروة ونتمتع بها، أفضل من أن تقتلنا الحاجة أو الحسرة على الثروة الضائعة. هناك الإنسان السياسي، وهو الإنسان المشغول بالصراع على السلطة، والترويج لمبادئه السياسية، والصراع مع خصومه الأيديولوجيين، فحتى وباء كورونا لا يستطيع إقناع هذا الصنف من البشر بتبديل أولوياتهم. تقدم الولايات المتحدة المنقسمة أيديولوجيا نماذج عدة لحالة الإنسان السياسي. حرص الرئيس ترامب على التخلص السريع من القيود المفروضة على الأنشطة الاقتصادية هو فى جانب كبير منه حرص على السلطة السياسية، فالأداء الاقتصادى هو فى نظر الرئيس أهم ما يضمن إعادة انتخابه للرئاسة مرة أخرى فى نوفمبر المقبل. مواقف خصوم ترامب الليبراليين تبدو مدفوعة بدوافع أيديولوجية قوية. فى البداية قلل الليبراليون من مخاطر كورونا، واعتبروا المبالغة فى هذه المخاطر جزءا من حملة التشويه العرقى التى يشنها المحافظون أنصار الرئيس ترامب ضد الصينيين والعرق الأصفر. فى مرحلة تالية بدل الليبراليون موقفهم، صحيح أنهم لم يسقطوا فى هوة التحيز العرقي، لكنهم تحولوا إلى أنصار متشددين للحجر الصحي، متهمين الرئيس ترامب بالتضحية بحياة الأمريكيين من أجل مصلحته الانتخابية. لدينا فى مصر نماذج للإنسان السياسي، الذى ينكر أى فضل لخصومه السياسيين الموجودين فى السلطة، والذى يرى نقصا وفسادا وعدم كفاءة فى كل إجراء يتخذه أهل الحكم. إنها الفئة من الناس التى ظلت لأسابيع تتهم الحكومة بإخفاء الحالات المصابة بالمرض، لينتقلوا بعد ذلك لتضخيم الثغرات الحقيقية والمتخيلة فى خطة الحجر الصحى والعلاج المعمول بها. تلعب السلطة دورا أساسيا فى مكافحة الوباء، فهى التى تنفذ الحجر الصحي، وتوفر وسائل الرعاية الطبية، وتقدم الدعم الاقتصادى للمشروعات والأفراد المتضررين من الإغلاق, والمؤكد هو أن السلطة ستخرج من هذه الأزمة فى وضع أقوى مما كانت عليه قبلها، بعد أن برهنت على أنها الأداة التى بدونها لا يستطيع المجتمع مجابهة تحدياته الوجودية. قضية السلطة والموقف منها هى قضية أساسية فى التكوين الفكرى للإنسان وموقفه من العالم، والأرجح أن انقسام البشر حول هذه القضية سيصبح أكثر عمقا فى نهاية هذه الأزمة. فهناك من البشر من يرى العالم مرتبا بطريقة عمودية، تجلس السلطة على قمته، لأن نظام المجتمع لا يستقيم بغيرها. هؤلاء هم المحافظون وأهل الوسط المعتدلون فى التيارات السياسية المختلفة. هناك على الجانب الآخر الإنسان الرافض للسلطة، والذى يراها مرادفا للقهر السياسى والاستغلال الاقتصادي، وهؤلاء هم الفوضويون والراديكالون اليساريون. بين هاتين الفئتين يوجد العدميون الساخرون، الذين لا يرون فى السلطة سوى جماعة منتفعين يتآمرون من أجل مصالحهم الخاصة، وهؤلاء هم المستهلكون والمروجون لنظرية المؤامرة، ومازال هؤلاء يرون فى كورونا خدعة من نوع ما، لا يصدقها سوى المغفلين. الإنسان المنتمى والآخر المنفصل، نمطان من البشر أظهرتهما أزمة كورونا. لدى الإنسان المنتمى قدر مناسب من الحرص على سلامته الخاصة، فى نفس الوقت الذى يدرك فيه العلاقة بين التزامه الفردى بإجراءات السلامة، وبين سلامة المجتمع الذى يعيش فيه. يرى المنتمى نفسه جزءا من مجتمعه، لا خير لنفسه إلا فى خير المجتمع. على الجانب الآخر، يعيش المنفصل يعيش بين الناس، لكنه أقام بينه وبينهم مسافة نفسية وثقافية وأخلاقية تبرر له الشعور بالانفصال، فلا يرى مصيره مرتبطا بمصيرهم، ولا يرى نفسه ملزما بقواعد السلوك المتوقعة منهم، وأن بعض الممارسات المتسيبة من جانبه يجب ألا تمثل مشكلة طالما كل الآخرين يلتزمون القواعد بدقة، وأن ممارسته بعض المتع البريئة، كقضاء الوقت على الشواطئ أو التجمع فى المقاهى غير الشرعية مثلا، يجب ألا يزعج أحدا. الإنسان المنفصل مراوغ، يركب فوق أكتاف الآخرين، فيستفيد من التزامهم بالقيود المفروضة من جانب السلطات، فيما يقيم لنفسه نظامه الخاص المتحرر من القيود. الجائحة وحدت البشر، نعم، لكن فقط فى حدود. فإلى جانب مظاهر الوحدة السائدة فى مجتمعات تواجه الموت هناك صراعات جارية لم تتوقف، وينتظر لها البروز إلى السطح بحدة فى نهاية الأزمة، لتضاف إلى الصراعات التى هدأت قليلا مع تقدم الوباء, وهكذا، فالبشر ديدنهم الاختلاف.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: