فى البيان الختامى الذى صدر عن الأزهر عما تحقق فى مؤتمر «تجديد الفكر الإسلامى» فقرات عن نظام الحكم اتخذ فيها الأزهر والمؤتمرون موقفا يعد خطوة إيجابية مهمة فى تجديد الفكر الإسلامى.
أربع فقرات يقول البيان فى أولاها «الدولة فى الإسلام هى الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة، والأزهر، ممثلا فى علماء المسلمين اليوم، يقرر أن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالدولة الدينية، حيث لا دليل عليها فى تراثنا، وهو ما يفهم صراحة بنود صحيفة المدينة المنورة ومن المنقول من سياسة رسولنا الأكرم ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين ـ ثم يضيف ـ وكما يرفض علماء الإسلام مفهوم الدولة الدينية فإنهم يرفضون بالقدر نفسه الدولة التى يقوم نظامها على جحد الأديان وعزلها عن توجيهات الناس.
فى هذه الفقرة الطويلة يعلن المؤتمرون أن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالدولة الدينية والسؤال الذى يجب أن نطرحه هنا هو ! أى إسلام؟ الإسلام كما يجب أن نفهمه من القرآن والسنة فى هذا العصر الحديث الذى نعيش فيه؟ أم الإسلام كما فهمه المسلمون وعبروا عنه فى العصور الماضية؟ الإسلام كما فهمه على عبدالرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم»؟ أم الإسلام كما فهمه علماء الأزهر الذين حاكموا على عبدالرازق وأخرجوه من زمرة العلماء؟
أما الإسلام كما يجب أن نفهمه فى هذا العصر فهو الدين الذى لا يعرف السلطة الدينية التى تعرفها الديانات الأخرى، لأنه يخاطب العقل ويطلب من المسلم أن يستفتى قلبه وأن يفعل ما يقتنع به ويطمئن إليه، ويسلم بحقه فى النظر والاجتهاد فى طلب الحق، ويثيبه على اجتهاده حتى لو أخطأ وبهذا استغنى الإسلام عن رجال الدين، لأن المسلمين يستطيعون أن يتصلوا بالله دون وسطاء، ويستطيعون أن ينظموا حياتهم دون سلطة دينية تفرض نفسها عليهم وتتحول إلى سلطة سياسية أو دولة.
غير أن الإسلام كما رأيناه فى العصور الماضية شىء آخر فلاشك فى أن الدول التى قامت باسم الإسلام فى العصور الماضية كانت دولا دينية رئيس الدولة هو خليفة الرسول. وهو ظل الله على الأرض.، وهو أمير المؤمنين، والشريعة الإسلامية هى قانون الدولة التى ظهرت للوجود بالكلمة التى قالها أبوبكر الصديق بعد وفاة الرسول: ألا إن محمدا قد مات. ولابد لهذا الدين ممن يقوم به، وعلى هذا الأساس قامت الخلافة التى اجتمعت فيها السلطات الدينية والسياسية، فالخليفة هو إمام المسلمين يدير شئون الدولة، ويؤم الناس فى الصلاة.
ولاشك فى أن الدولة فى الإسلام شهدت تطورات كثيرة منذ بدأت مع الخلفاء الراشدين فى القرن السابع الميلادى حتى اختفت على يد أتاتورك فى القرن الماضى. لكن الأساس الدينى الذى قامت عليه ظل ثابتا لم يتغير ،هل معنى هذا أن الدولة الدينية فريضة من فرائض الإسلام أو شريعة من شرائعه؟ لا فالإسلام دين لا شأن له بنظم الحكم. يأمرنا بالعدل والتعقل، والتكافل، والرحمة وينهانا عن الظلم، والاستبداد، والعنف، والعدوان، لكنه يترك لنا أن نختار النظم والطرق التى تمكننا من أن نلتزم بما يأمرنا به. فإذا كانت الظروف والأوضاع التى نشأت فيها دولة المسلمين قد فرضت عليهم أن تقوم هذه الدولة على الدين فهذه ليست إلا استجابة لما أملاه الواقع الذى كان فيه المصدر الوحيد للقيم والمعارف والقوانين، وكان الرابطة التى تجمع بين الناس وتحولهم من قبائل وعشائر متناحرة إلى شعوب متجانسة مؤتلفة. ونحن ننظر فى العصور القديمة والعصور الوسطى فنجد الدين هو الأساس الذى قامت عليه الدول فى مصر، وبابل، وبلاد الشام، وفارس، واليونان، وروما، وبيزنطة لكن هذه الأوضاع تغيرت فى القرون الخمسة الماضية التى تطورت فيها المجتمعات الأوروبية واكتشف العالم من جديد، وتحولت اللهجات المحلية إلى لغات قومية، وتقدم العلم، وظهرت الطبقات الوسطى التى لعبت الدور الأول فى هذه التطورات، ورفعت راية العقل، ودافعت عن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وثارت ضد الاستبداد، واصطدمت بالسلطات الدينية والسياسية القائمة، واستطاعت فى النهاية أن تبنى الدولة الوطنية الديمقراطية على أنقاض الإمبراطوريات الدينية.
والذى حدث فى أوروبا حدث عندنا. السلطة العثمانية التى ورثت الخلافة عن العباسيين فقدت قدرتها على مواصلة الحياة فى العصور الحديثة، واشتعلت الثورات فى ولاياتها التى انفصلت عنها واحدة بعد الأخرى ومنها مصر التى مرت بسلسلة من التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية استيقظ فيها المصريون من سباتهم الطويل، وأدركوا أنهم جماعة وطنية لها ما يؤهلها لأن تستقل وتتقدم وتحكم نفسها بنفسها. وقد دفعها هذا الوعى لأن تثور مرتين: الأولى فى طلب الديمقراطية وهى ثورة عرابى، والأخرى فى طلب الاستقلال وهى ثورة 1919 التى انتهت بقيام الدولة الوطنية المصرية.
الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة ثمرة لهذه التطورات التى ذكرتها وهى لا تنتمى لدين بالذات، لأن الدين لا يفرض على المؤمنين به نظاما سياسيا، وإنما يعطيهم الحق فى اختيار النظام الذى يضمن لهم الحرية والعدالة. وهذه هى الأفكار الرئيسية التى عرضها الشيخ على عبدالرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم» وأسقط بها دعاوى الداعين لنقل الخلافة إلى مصر وتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين بعد أن قام كمال أتاتورك بإلغاء هذا النظام فى تركيا، وكان فى مقدمة الداعين لهذا رجال الأزهر الذين اتهموا الشيخ على عبدالرازق بأنه جعل الإسلام شريعة روحية لا علاقة لها بالحكم وأنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لابد للأمة من يقوم بأمرها فى الدين والدنيا، وبهذه التهمة عقدوا محاكمة لمؤلف الكتاب وحكموا بإخراجه من زمرة رجال الأزهر. وها نحن نرى أن الأزهر فى المؤتمر الذى عقده لتجديد الفكر الإسلامى يراجع موقفه ويتبنى ما سبق إليه الشيخ على عبدالرازق منذ ما يقرب من مائة عام، ويعلن أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية وأن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين.
ونواصل قراءة البيان فى الأسبوع المقبل.
لمزيد من مقالات بقلم ــ أحمد عبدالمعطى حجازى رابط دائم: