أثارت العولمة الكثير من الجدل، سواء حول تاريخ ظهورها كمصطلح أو التعريفات التى طرحت لها وحتى حول مزاياها وعيوبها، و طرق إدارتها وقواعد ذلك، وأخيرا هل ماتت وكتب تفشى فيروس كورونا المستجد «كوفيد – 19» شهادة وفاتها، أم أنها ضرورة للحاضر والمستقبل لمواجهة أوبئة وكوارث وحروب قد تكون أشد فتكا مما يشهده العالم اليوم فى 2020. ومع صعود الأحزاب الشعبوية خصوصا مع الكساد الذى ضرب العالم بين عامى 2008 و2009، وما تبعها من موجات ضخمة للهجرة مع الثورات العربية فى 2011، انقسم الغرب بين مدافع عن العولمة، يقودهم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، الذى شكل أملا لشعوب العالم برفعه شعار «نعم نستطيع» وباعتباره أول رئيس من أصل إفريقى للولايات المتحدة، وبين صرخات القوميين الذين يدعون لإغلاق الحدود ورفض الشباب فى حركة «احتلوا» لتوحش الرأسمالية.
فقد حارب العولمة أيقونة النضال ضد العنصرية نيلسون مانديلا باعتبارها شرا يحتاج إلى محاربته باسم الحرية، بينما دافع عنها أوباما لأنها حقيقة والدول لا يمكنها بناء جدار حولها. العالم تغير سريعا، وأصبحت النعرات القومية أعلى صوتا، مع صعود الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وظل قادة الغرب سواء المرأة الحديدية الألمانية المستشارة أنجيلا ميركل أو الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون يدافعون عن العولمة وعالم بلا حدود، فى وقت يسعى فيه زعماء آخرون إلى الانعزالية وبناء جدران بمليارات الدولارات. بينما دعت الأمم المتحدة العام الماضى إلى «عولمة عادلة» لتحقيق أهداف التنمية المستدامة فى 2030، ولم يحدد أنطونيو جوتيريش الأمين العام للمنظمة الدولية سوى 3 تحركات للوصول إلى هذا الهدف: «المزيد من الاستثمار، المزيد من العمل السياسى، ووضع العولمة العادلة كأولوية». وقبل تفشى فيروس كورونا القاتل عبر الحدود، بدا العالم كأنه يعيد تقييم معانى العولمة. فالولايات المتحدة، التى يقودها ترامب المتفاخر بقوميته، أصدر أوامر للشركات المتعددة الجنسيات لترك الصين وتصنيع بضائعهم فى المصانع الأمريكية. وتخلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى، وأعادت الفحص الجمركى على البضائع على جانبى القنال الإنجليزى، وهو ما أضر بالعلاقات الحيوية التجارية بين الجانبين. ففى أوروبا، عزز مبدأ إغلاق بوابات الحدود بالقوة مكانة أحزاب اليمين المتطرف التى فازت بأصوات الناخبين. ويسعى ترامب إلى تشييد جدار على طول الحدود مع المكسيك، بينما حظر العديد من الجنسيات بلاده. ومنح وباء كورونا أحزاب اليمين المتطرف فرصة طازجة للتحذير من الحدود المفتوحة التى تسببت فى دخول الفيروس، فقد قيد الوباء القاتل حركة ملايين البشر داخل حدود مجتمعاتهم بل وبين جدران منازلهم، وأعطاهم الوقت للتفكير مليا إذا ما كانت العولمة هى فعلا هذه الفكرة العظيمة. ولكن ليس من السهل أن تنتهى العولمة، فالروابط التجارية التى تنتج بضائع العصر الحديث من أجهزة الكمبيوتر إلى السيارات، تتضمن حلقات من البشر التى تنسق العديد من العمليات لدرجة أن صناعة محلية لواحد من هذه المنتجات يبدو وكأنه ضرب من الخيال. وفيروس كورونا نفسه لا يحترم الحدود، ويتطلب تنسيقا دوليا غير مسبوق لمواجهته ، وهى العملية التى تسهلها البنى التحتية للعولمة أى الحدود المفتوحة. ولكن عندما تصبح الأقنعة الجراحية لوجوه العولمة عناصر ضرورية، مع إغلاق المدارس حول العالم ووقف الرحلات وإلغاء المعارض التجارية وتراجع أسواق الأسهم، وخسارة تريليونات الدولارات من ثروات أغنى مليارديرات الأرض، حيث يبدو أن الغرب ربما يلجأ إلى تعديل ملامح العولمة. ومن بين أكثر التأثيرات وضوحا على التجارة، أن الوباء دفع إلى إعادة اختبار الاعتماد على الصين كمصنع العالم، وهو الاتجاه الذى بدأته الحرب التجارية التى أطلقها ترامب ضد التنين الصينى. ولم تنجح الحرب التجارية فى حماية «صنع فى أمريكا» أو العمال الأمريكيين بل العكس تماما. فقد هربت الشركات المتعددة الجنسيات إلى بدائل أخرى مثل فيتنام وبنجلاديش والمكسيك. أما الأحزاب الشعبوية مثل «الديمقراطيين» السويدى، و«البديل من أجل ألمانيا»، واللذين يشكلان إحياء للنازية كما بلورها الزعيم النازى أدولف هتلر إلى جانب الجبهة الوطنية الفرنسية والرابطة الإيطالى، جميع هذه الأحزاب قالت إن الهجرة محاولة للتطهير العرقى، لتنسى هذه الأحزاب التاريخ وما فعلته أوهام التفوق التى يؤمنون بها. هاجمت هذه الأحزاب حكوماتها لعدم سيطرتها على حدودها مما تسبب فى تفشى الوباء. ويميل البعض إلى استخدام وباء كورونا كفرصة لكتابة نعى العولمة، وينفى آخرون هذا الافتراض باعتباره تقديرا خاطئا. فقد ظهر الفيروس فى مركز صناعى عالمى، وعزز انتقاله وتفشيه وسائل النقل الحديثة مثل الطيران. وانتشر بقوة بشرية دافعة غير محكومة الحركة. والعولمة هى عملية التفاعل والتكامل بين البشر والشركات والحكومات حول العالم، وهذا لن ينتهى، فالعالم قرية صغيرة بفضل الإعلام، ومجتمع واحد، والهواء الذى نتنفسه واحد، وتأثير الفراشة عندما يظهر فى أمريكا الجنوبية فإنه يؤثر فى آسيا، وعندما ظهر كورونا فى الصين لم يسلم من تأثيره أحد، فالقارب واحد والمصير مشترك.
رابط دائم: