رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

من «بس» حتى «كورونا»..
المصــريـون.. نصـبوا إلها للضـحك

** سهير عبدالحميد**

عندما حل الوباء فى مصر عام 1835 وراح ضحيته فى القاهرة وحدها 35 ألف نسمة، دونت المستشرقة الفرنسية سوزان فوالكان،ملاحظاتها حول الهلع الذى أصاب أبناء الجاليات الأجنبية، وكيف تقبل المصريون مسلمين وأقباطا الوباء بصبر ورضا.وقالت فوالكان: «إن هذا الشعب يبدوعبقريا فى صمته، وفى مواجهة صعوبة الحياة بلفظة الله كريم»

هذا هو حال المصريين الذين استقبلوا نكبات الدهر بابتسامة رضا وضحكة صبرطويلة مجلجلة وكأن الأمر لا يعنيهم أو يخصهم وكأنهم عقدوا اتفاقا مع القدر على ألا يمسهم بسوء.. لذلك عندما هل عليهم عام 2020 ومعه بوادر حرب عالمية ثالثة لم يكن منتظرا منها أن تبقى أو تذر، ثم جاء فيروس كورونا ليسكن الفزع العالم، وجدنا المصريين يواجهون ذلك كله بأعلى درجات «الألش». وما الذى ننتظره من شعب اخترع إلها «للفرفشة» والضحك منذ بدأ الحياة على وجه الأرض!





المراقب للتراث الشعبى فى مواجهة الأزمات من أوبئة واحتلال ومجاعات، سيجد أن المصريين واجهوا أزماتهم،بمزيج من التنكيت والتبكيت الذى كان بالنسبة لهم سفينة نوح التى ستحط بهم على بر الأمان.

وهذا ما حدث مع «كورونا» الذى نال نصيبه من ألسنة المصريين اللاذعة، وبلغت السخرية قمتها وقت «إعصار التنين» الذى زاد الطين بلة وأصبح المصريون بين مطرقة الإعصار وسندان كورونا فجاء الإفيه الشهير «إعصار محلى محطوط على كورونا».

هذا جزء من كل، لمحة من تاريخ طويل تكيف فيه المصريون مع ظروف الحياة وصنوف الظلم واستبداد الحكام وصلف الغزاة وتقلبات الطبيعة من أوبئة ومجاعات، بسلاح فتاك هو «السخرية» التى كانت كالسوط الذى يقتل الخصم من الضربة الأولى...إنه السوط الذى دفع «بونابرته» كما أسماه المصريون أن يصدر قانونا لمعاقبة الشعب المصرى على نكاته التى يطلقها على الفرنسيين،نجح المصريون فى تنغيص حياة نابليون أمهر القادة العسكريين وأكثرهم دهاء فى عصره وأوانه، وذلك كله بألسنتهم الحادة التى تضارع حدة السيوف، فصرخ نابليون بأعلى صوته مهددا الشعب المصرى «إياكم وحديث المساخر».

وكما قال العبقرى جمال حمدان وأكد،فإن الاستمرارية صفة أساسية فى الشخصية المصرية،لذا فإن هناك سمات متوارثة من جدود الجدود مازالت حية فينا منها خفة الدم وروح الفكاهة. والتى ربما كان سببها الزيت الحار العايم على وش طبق الفول، والذى يزود المخ بمادة التربوفان المسببة للسعادة كما قالت إحدى الدراسات. أو ربما كانت بسبب جين وراثى يجعل المصريين يضحكون فى عز المآسى حتى لا يموت الواحد منهم من الغم والقهر.

ففى أحلك الظروف تجد الشعب المصرى قادرا على السخرية من واقعه،ففى أيام الحروب الصليبية وبينما الصليبيون يدكون الشرق دكا، يجلس الأسعد بن مماتى ليخط كتابه «الفاشوش فى حكم قراقوش» الذى نكل فيه تنكيلا ببهاء الدين قراقوش وزير الناصر صلاح الدين الأيوبى.

ولأن العرق يمد لسابع جد، ففى الأدب الفرعونى الكثير من القصص والأشعار والرسوم التى تفوح منها رائحة الفكاهة الساخرة،حتى إن الثنائى «توم وجيرى» أو القط والفأر قد ظهرا على جدران المعابد قبل أن يقدمهما كل من: جوزيف باربيرا، ويليام هانا،على هيئة رسوم كارتونية فى أربعينيات القرن الماضى واستمرت «تيمة» القط والفار حتى فى العصر القبطى حيث تسجل لنا إحدى الصور المرسومة على جدران إحدى الأديرة القديمة فى مصر العليا، مشهدا لثلاثة فئران تطلب العفو من القط الجالس فى حالة غطرسة واضحة.

لقد نصب المصريون منذ 7 آلاف سنة إلها للضحك ومثلوه على هيئة قزم صغير مقوس القديمن يظهر أحيانا على جدران المعابد وقد أخرج لسانه فى صور كارتونية مبهجة،تعبيرا عن ميلهم الشديد للمزاح والفكاهة

هذه الروح جعلت الرومان يمنعون المحامين المصريين من الدخول إلى محاكم الاسكندرية، لأنهم كانوا يواجهون القضاة بكل قوة وببلاغة ساخرة.

وقال الشاعر الرومانى ثيوكربتوس «إن المصريين شعب ماكر لاذع القول روحه مرحة».

مواجهة الخليفة الفاطمى بـ «سلاح الكيد»

عندما جاء الفاطميون يريدون فرض مذهبهم الشيعى على الشعب المصرى السنى، ظل المصريون على وفائهم للمذهب السنى ولم يكن تشيعهم لآل البيت نفاقا أو كذبا بل هو الحب الموجه لأحفاد سيدنا النبى.وتدثرت مصر برداء سنى المذهب شيعى الهوى.وعندما حاول الفاطميون الشطط وادعى بعضهم علم الغيب لم يصمت المصريون. ويروى فى ذلك أن «العزيز بالله» صعد المنبر ذات يوم فرأى ورقة كتب فيها: «بالظلم والجور قد رضينا وليس بالكفر والحماقة». إن كنت أعطيت علم الغيب فقل لنا كاتب البطاقة.

وفى العصر المملوكى ظهر فن الأراجوز ومن بعده خيال الظل ليكونا وسيلة مبتكرة للتنكيت ورفض الظلم الاجتماعى واستمر الحال فى العصر العثمانى،ويروى الجبرتى أن المصريين تهكموا على الباشا التركى بأغنية ألفوها ولحنوها «ياباشا يا عين القملة مين قالك تعمل دى العملة».

قانون المعايرة

لم يجد الإنجليز طريقة لوضع حد لتلك الطريقة التهكمية التى تتعامل بها معهم النساء المصريات فى الحوارى والأزقة، إلا بإصدار قانون يقضى بتغريم كل من تقوم بالتهكم والسخرية من إنجليزى،أطلق عليه «قانون المعايرة»..فقد كانت السيدات يستوقفن العساكر الإنجليز وتمنحهم «الطريحة المظبوطة» من الشتائم فقد كانت تلك الطريقة التى يمتلكنها فى مواجهة الاحتلال.

إرادة الطفو

«عزيمة الطفو» كان هذا المصطلح الفريد الذى قالته الكاتبة الصحفية صافى ناز كاظم فى تفسير بليغ لقدرة المصريين على مواجهة أوجاعهم بالدعابة قائلة،إنها الطريقة الإيجابية للعبور من نفق الأزمات بسلام. وروت كيف كانت مع زميلاتها فى المعتقل يضحكن فيتغلبن بالضحكات على ظلمة الزنازين « كان معايا واحدة اسمها زينات كانت سيدة وقورة قالت لى لم أكن أتخيل أن أضحك بهذا الشكل فى السجن». وأضافت صافى ناز كاظم،فى ثورة 25 يناير كانت روح المزاح عالية وكان الناس يضحكون فى عز وجعهم فرفع أحدهم لافنة كتب عليها «ارحل بقى ايدى وجعتنى» وكان هذا هو حال المصريين دوما. أتذكر كيف عبر صلاح جاهين بسلاسة عن وجود أخطاء كبيرة فى تأسيس السيرك المصرى فقد قال لى «كل حاجة بنعملها تطلع سيرك إلا السيرك» كانت جملة خفيفة الدم فيها تقييم حقيقى ولطيف.

انعكس هذا على كل شيء حتى الأدب ظلت خفة الدم موجودة فيه فمثلا هناك رواية «شوق المستهام» للأديبة سلوى بكر فرغم الوجع الذى تحتويه السطور تجد روحا فكاهية عالية..وينفرد المصريون بقدرتهم على السخرية من الذات لكن خفة الدم المصرية الآن أصبحت غليظة بعض الشيء وربما ذلك بسبب مساحة الحرية التى جعلت البعض يحاول أن يصنع الدعابة.

الشعر الساخر

فى كتابه «الشعر الشعبى الساخر فى عصور المماليك» رصد الدكتور محمد رجب النجار قدرة الشعب المصرى على السخرية من خلال أشعار شعبية صاغها العامة ولحنوها

فيروى كيف سخروا من «الأتابكى قوصون» نائب السلطان الذى استأثر لنفسه بأمور المملكة، وصار صاحب الحل والعقد دون الملك الأشرف «علاء الدين كجك» «أى الصغير» ابن الملك الناصر «محمد بن قلاوون»، الطفل الذى ولى عرش مصر وهو دون السابعة، وكان الشعب يدين بالولاء لوالده الناصر، فقال بعض العوام قصيدة يقول مطلعها:

من الكرك جانا الناصر وجاب معه أسد الغابة.

ودولتك يا أمير قوصون ما كانت إلا كدابة

ومن الطرائف التى تهكم عليها العامة أوامر سلطانية خاصة بتحريم الزنى، ومنع الخمر والحشيش، وكانت الدولة تلجأ لذلك كلما وقع قحط أو وباء أو مجاعة، بسبب انقطاع النيل، فتعتبر الدولة القحط نتيجة لشيوع الفساد وقلة الدين وليس لانخفاض منسوب النيل، وكان المصريون يسخرون من السلاطين أنفسهم لأنهم رأس الفساد، ولا معنى لإغراق امرأة خاطئة فى النيل بعد ربط حجر بجسمها، أو صلب أحد العامة لأنه شوهد يدخل الخمارة وفى يده «باطية خمر»، خاصة أن كبار المماليك يفعلون ذلك علناً، وكانت الدولة تعترف بالبغاء، وتفرض عليه ضرائب هو والحشيش، والرشوة كانت أمرا مشروعا بين الوزراء والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، وبعض السلاطين كان يتحمس أحيانا لتطهير البلاد من الفساد، لكنه لم يكن يُطبق حدود الإسلام، بل الحدود التى شرعها هو، فإذا رفض القضاة الأربعة وقاضى القضاة تنفيذ العقوبة عزلهم جميعاً.

وذكر «الجبرتى» ما قاله الشيخ «حسن شَمَّة» هو: قالوا: تحب المدمس؟ قلت: بالزيت الحار

والعيش الأبيض تحبه؟ قلت: والكشكار

قالوا: تحب المطبق؟ قلت: بالقنطار

قالوا: اش تقول فى الخضاري؟ قلت: عقلى طار.

المسجد الحرام

كانت أفضل وسيلة عاقب بها المصريون «خاير بك» على خيانته طومان باى أن أطلقوا عليه اسم «خاين بك» فى سبة لم يمحها مرور نحو 5 قرون.ولم يكتفوا بذلك بل حرموا على أنفسهم الصلاة فى مسجده الذى أضحى مهجورا. وهو الموقف الذى تكرر تاريخيا مع مسجد المؤيد شيخ، حيث يقول المؤرخ «ابن اياس» أن والى القاهرة كان يهجم على البيوت ومعه عمال الرخام، ويقتلع رخام منازلهم كرها، ما تسبب فى خراب بيوت كثيرة، وامتد الظلم إلى مسجد السلطان حسن فخلع بابه وجعله بابا لمسجد المؤيد. ويقال إن مئذنة المسجد مالت بعد إنشاء المسجد مباشرة ويقال أيضا إن المؤيد كان له ابن يدعى إبراهيم أحبه المصريون، فخاف المؤيد أن ينقلب عليه ويستولى على الحكم فقتله ودفنه فى ساحة المسجد..قد تكون روايات صحيحة وقد تكون فيها مبالغة أضافها المصريون كراهية فى المؤيد الذى أطلقوا على مسجده اسم «المسجد الحرام» سخرية منه ومن استخدامه المال الحرام فى بناء المسجد.

تفسير ابن خلدون

فى قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية للدكتور أحمد أمين، نقرأ آراء عدد من المؤرخين عن إسراف المصريين فى إطلاق النكات، فنجد ابن خلدون يقول:

«أهل مصر كأنهم قد فرغوا من الحساب»

فى حين قال المقريزى: «من أخلاق مصر الإعراض عن النظر فى العواقب وعدم الإمعان فى حساب العواقب يستتبع الفرح والمرح لأن الإنسان إذا لم يفكر فى العواقب لم يحمل هما فيكون مجال النكت عنده فسيحا..ونقل المقريزى عن أبى الصلت إن أخلاق المصريين يغلب عليها الانهماك فى الملذات والاشتغال بالترهات وفى أخلاقهم من الملق والبشاشة ما أربوا فيه على من تقدم ومن تأخر» فى آراء أولئك المؤرخين ما يرسخ فكرة وجود سمات نفسية متوارثة لشعب ما، بينما يرى. د. محمد الرخاوى استشارى الطب النفسى: يتميز المصريون بمواجهة بعض الأزمات بالسخرية ولكن هذا أمر لا يستدعى التعميم النظرى بالقول إن هناك سمات نفسية معينة لكل شعب.

لسنا فى حاجة لهذه النظرية لنقول إن من طبائع المصريين التعامل بسخرية وربما بخفة دم مع الأزمات أما عن كون السخرية سمة متوارثة ثقافيا، فعلينا الانتباه إلى أنه حتى الموروث الجينى يتكيف ويتبدل مع الظروف البيئية ومع السياق. لقد مر على جيلى زمان لم يخل فيه يوم واحد من السؤال «سمعت آخر نكتة؟» ثم مررنا بمرحلة أو مراحل افتقدنا فيها تدفق النكات وافتقدنا أيضا هذا السؤال نفسه. سألته: هل يمكن اعتبار السمة نوعا من الدفاع النفسى أم درجة من درجات الاستسلام، فأجابنى مستنكرا: ولماذا نتجه نحو تفسير سلبى للسخرية؟ إن النكتة إبداع وكثير من السخرية لا يخلو من إبداع، بل لا يخلو من وظيفة إيجابية تتمثل فى التخفيف من الآثار السلبية للفزع. إن كونى أبدع نكتة عن أزمة فيروس كورونا لا يتعارض مطلقا مع إمكانية اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة بشكل علمى وملتزم.هذا شأن وذلك شأن آخر. ويضيف د. الرخاوى: لا أظن المصريين «وربما ولا غيرهم» يندرجون فى فئة واحدة فى التعامل مع هذه الأزمة.فهناك من يسخر وهناك من يفزع وهناك من يلتزم بالاحتياطات الموصى بها وهناك من يستهين. بل إن هناك أصلا من يصدق وهناك من يكذب ويتشكك فى حقيقة أو حجم المشكلة. الخطورة بالنسبة للمصريين ربما تنبع من مشكلات أخرى عملية كحجم الإمكانيات المتاحة للوقاية أو العلاج أو من مستويات الزحام شبه الحتمية أو من مستويات النظافة العامة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق