رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«الأهرام» يدخل «الديسمى» بعد انحسار المياه..
حكاية قرية أغرقتها السيول

تحقيق ــ علا عامر - تصوير ــ محمد حسنين
تصوير ــ محمد حسنين

  • مستشار وزير التنمية المحلية: ندرس التطوير الشامل للقرية ومستمرون فى تقديم المساعدات
  • الأهالى: السيل جاء على «بيوتنا» بدلا  من «المخر».. والحال أسوأ مما نقله الإعلام
  • فاطمة: المياه جرفت الثلاجة والغسالة 
  • رضا: المقابر غرقت ..والحى والميت يعانيان
  • عادل سيد: مجرد ما الشمس تغرب البلد بيتحول لبيت أشباح
 

 

لم يدر بخلدهم أن ليلة الجمعة الماضية ستكون آخر عهدهم ببيوتهم، صحيح أنه تناقل إلى سمعهم تحذيرات الأرصاد من قوة الإعصار وشدة الأمطار، ولكنهم لم يتخيلوا أن السيول ستهاجم قريتهم بكل هذا العنف وأنها ستأبى أن تنحسر عنهم إلا بعد أن تجرف فى طريقها ما تشاء من زرع وبشر ومتاع ودواب.. قد يكون الأمر مفاجئا بالنسبة لرجال ونساء وأطفال بسطاء لا يهمهم سوى أن يدوم لهم «الستر» خلف أربعة جدران، وأن يستمر السعى وراء رزق يأتيهم يوما بيوم ، لكن بالنسبة للمسئولين لم تكن هناك أى مفاجآت، لأن «الديسمي» تحتل موقعا متميزا على خريطة القرى التى تمر بها مخرات للسيول، والتى يكلف إصلاحها وترميمها الدولة سنويا مبالغ طائلة، ووفقا للدراسات والتقارير فإن للسيول سنويا موعدا متوقعا ومعلوما، وبالرجوع للتصريحات تبين إعلان محافظة الجيزة فى شهر سبتمبرالماضى عن اتمام خطة تطهير ومراجعة المخرات الواقعة فى نطاقها وعددها سبعة ، ومع ذلك فالكارثة حدثت بالفعل، وأصبح هناك عدد كبير بلا مأوي، ومطلوب على وجه السرعة إيجاد حلول.

بعد مرور نحو خمسة أيام على غرق القرية، أصبح من الممكن أن ندخلها، إذ كانت محاصرة بمياه الأمطار، شددنا الرحال لنقطع طريقا استغرق مايزيد على الساعتين، ربما لكثرة المطبات الصناعية المصممة بشكل بدائى وعشوائي، كلما مررنا بها أحدثت احتكاكا بأسفل السيارة وارتجاجا لمن يجلس بداخلها، عندما اقتربنا من «الإخصاص» بدأنا نسأل عن وجهتنا، الكل يعلم القرية «المنكوبة»، فيشير أحدهم الى أنها على بعد عدة كيلومترات، فنمضى تطالعنا سحب التراب الكثيفة التى لم تنقطع حتى وصولنا إلى القرية كما لم تنقطع أفواج سيارات النقل الثقيل القادمة فى الاتجاه المقابل، بينما كانت تظهر على الجانبين تارة بيوت بسيطة، وتارة أخرى مساحات خضراء شاسعة تسر العين، وعشرات من ورش صيانة ودهانات السيارات، ثم تأتى صورة لمجرى مائى تعلوه القمامة والمخلفات إلى أن وصلنا مركز «الصف» وأمام مبنى «سورناجا» الذى كان مخصصا لصناعات الطوب الحرارى والخزف وتم ايقاف تشغيله فى التسعينيات وجدنا عددا كبيرا من الأهالى يقفون بانتظار حصتهم من مساعدات غذائية يتم توزيعها عليهم، أوقفنا السيارة وبدأنا نتكلم معهم، تجمع عدد كبير منهم، وبدأوا فى تملية أسمائهم علينا: أسماء سيد أحمد، منى ضيف الله، نادية صبحي، جمال صابر، وهم ينتمون لعزب مختلفة تابعة لقرية الديسمي، وبعد أن دهمت القرية السيول، تم إجلاؤهم من خلال وحدات من رجال الحماية المدنية والتدخل السريع التابعة لمديرية أمن الجيزة فى مقار مؤقتة بالصف مثل المساجد ومركز الشباب، ومنهم من لايدرى شيئا عن باقى أسرته، يقولون: مانعرفش حاجة عن اللى مات ولا عن اللى عاش، وطلب منا الجميع أن ندخل القرية ونتوغل فى منطقة العزبة الشرقية لنقف على حال الأهالى وما لحقهم من خراب وهو ماكان مقصدنا بالفعل منذ بدء الرحلة.

قطعنا الطريق !

رافقنا محمود عبد الرحمن وسمعنا منه تفاصيل تلك الكارثة التى بدأت قرب منتصف ليلة الجمعة الماضية ولم تنته تداعياتها إلى الآن، يقول: كنا نايمين أنا وأسرتى وفجأة صحيت على صوت جامد لقيت جانبين من حيطان البيت وقعوا والسقف بدأ يريح، ورغم الصدمة فإننى بسرعة أيقظت والدتى وانطلقت بها قبل أن ينهار السقف فوق بيوتنا وفور خروجنا أدركت الموقف، إذ كان تيار رهيب متدفق من المياه يمر ببيوتنا ويضرب الحوائط بقوة، ويدخل كل البيوت، ويخرج بما داخلها من فرش وأجهزة، وبيوت القرية أكثرها مبنية بالطوب اللبن، وفى ناس عاملين بالمسلح،واللى عنده دورين قاعد فى الدور العلوي، أما اللى بيته دور واحد فإما البيت غرق بالماء، وإما اتصدع وانهار.

أوقفنا الحديث بعد أن أن نزلنا من السيارة ووقفنا بأعتاب القرية المنكوبة، قبلها بأمتار صرخ فينا نفر من الواقفين بالشارع بأن نتوقف، لأن الطريق مقطوع، ولن يمكننا التقدم إلا سيرا على الأقدام، أو باستقلال «ماكينة» دراجة بخارية أو تروسيكل، وبعد أن أفصحنا عن هويتنا سألنا عن سبب انهيار الأسفلت فى هذا الجزء، وما إذا كان هبوطا بسبب الأمطار فقاطعنى الحاج عبد الهادى سنوسى قائلا: احنا اللى عملنا كده عشان نخرج مياه السيل اللى ضلت طريقها للمخر وغرقت بيوتنا، ونرجعها تانى للمخر، لما مالقناش حد يساعدنا عملنا كده من نفسنا، وأضاف: المخر ده قديم من أيام المللك فاروق، والمفروض أنه يجيب السيل من فوق من الجبل لحد مايوديه على النيل لكن اللى حصل أنه جابه على بيوتنا، ويتدخل ابراهيم عبد المطلب: الزرع بتاعنا راح وده كنا بنعيش على دخله، ومش عارفين هنعمل ايه دلوقت، وجوه مافيش حاجه ناكلها أو نشربها طالع أشوف أى حاجة تسد رمق أهل بيتي، جذبتنى هويدا كامل فرحان من ذراعى وهى ترجونى أن أكتب اسمها وأنقل صوتها هى وأهل القرية، مشيرة إلى طفلتين صغيرتين إلى جوارها: دول بناتى توأم طلعت جرى بيهم بعد ما العروق الخشب بتاع البيت وقعت علينا واحنا نايمين، ودلوقت مالناش مأوى ولا مصدر رزق ولولا شوية المساعدات كنت مت أنا والعيال من الجوع.

بنية تحتية

محمد عبد الصمد عيسى : عاوزين حد يحس بينا، مش بس بيوتنا اللى خربت دى القرية كمان عاوزه تتأسس من جديد، خصوصا إن إحنا ماعندناش صرف صحي، ومن ساعة السيل ماحدش عرف ينزح الطرنشات اللى اتملت ميه تحت البيوت، وأخيرا جبنا جرارات نزحت بعد ما أخدوا منا فلوس.

تكافل قروي

كان لابد من الدخول لمنطقة العزبة الشرقية الأكثر تضررا كما سمعنا منهم، وهو مايتطلب عبور ممر مائى مثبت فوقه جذع نخلة مقسوما نصفان، فمشيت فوقه كما تمشى الناس ، بعدها كان هناك شارع طويل على يمين مخر السيل وبدأ الأهالى يلفتون نظرى إلى أجساد الحيوانات الغارقة، والتى لم تطف تماما على السطح مما يستلزم انتشالها لما قد تسببه من تلوث ونشر للعدوي، بينما أمكن أن نشاهد على الجانب الآخر سيارات تقوم بشفط المياه من الأراضى والضخ بها فى مجرى المخر،إلى أن وصلنا إلى منطقة بها حركة مكثفة وهرج ومرج وسيارات ربع نقل تحمل أغطية وجراكن كثيرة من المياه، وكل سيارة يعلوها عدد من الرجال والشباب. محمود إمام موظف بالأوقاف قال لنا وهو يشير إلى السيارات: الحاجات دى من «الكداية» وهى قرية تبع مركز أطفيح، وكتر خيرهم وقفوا جنبنا، وجم بعربياتهم يدخلوا جوه الطين علشان يوصلوا أكل ومياه ومساعدات للأهالى اللى ماخرجوش من القرية، خصوصا أن المساعدات كانت بتتوزع براها فقط ، وماحدش دخل لينا جوه ولا حتى من المسئولين.

سألنا عن حرفة شباب ورجال القرية، أجابنا أحدهم، محمد عبدالله: أنا أرزقى شغال بدراعى فى أى حاجة، وممكن فى يوم أشيل طوب، ويوم أشتغل فى الفاعل، وأغلبنا هنا كده أو يكون بيزرع، أو مربى بهيمة بياكل من وراها. وفى شباب كتير بيشتغلوا فى مصانع الطوب فوق فى الجبل، ومنهم محمد إبراهيم حسن: باشتغل فى الطوب الأخضر، لكن حتى ده ماعادش موجود بعد ما السيل نزل عليه، واحنا بناخد يومية مش بنقبض بالشهر، يعنى حالنا موقوف من كل ناحية. والنواب اللى انتخبناهم بندور عليهم مش لاقيينهم وماحدش فيهم فكر ييجى يشوف حالنا أو يساعدنا.

«الشوار» غرق


وبينما نكمل سيرنا جاء شاب يلاحقنا يسألنا إن كنا نستطيع المساعدة لوالده صالح عبد الحليم، لأنه كما قال كان لديه مواشى بقيمة 20 ألف جنيه، وكل الأسرة عايشين منها بيبيعوا لبن وزبدة وجبنة، ويكمل: «المواشى غرقت وماتت قدام عينينا وأنا باشتغل بيومية ماتكملش مية جنيه فى مصانع الطوب اللى وقفت، وكمان شوار أختى غرق ومش عارفين هنجوزها ازاي»!

نقطة الشرطة مهجورة

وأمام مبنى يبدو حديثا ولكنه مهجور وجدنا الشباب يتسابقون لملء جراكن المياه من الداخل، وعلمنا أن هذا المبنى ماهو إلا نقطة شرطة أصبحت خالية ومهجورة من بعد ثورة يناير، ولأن فوق سطحها خزانات ممتلئة بالمياه منذ سنوات، فقد فطن إليها الناس فى ظل أزمة انقطاع المياه والكهرباء عن القرية بأكملها منذ أيام، ورغم أن أحدهم يصرخ فيهم بألا يفعلوا لأن - على حد قوله - المياه قديمة وبها دود !

وداخل العزبة الشرقية كان هناك إصرار من الأهالى على أن معظم الكلام اللى بيتقال فى الإعلام عنهم مش صح، يقول عادل سيد: اللى يقول دول كام بيت بس اللى وقعوا ، واللى يقول إن المسئولين جم ودخلوا جوه مش وقفوا على الباب، واللى يقول إنهم وفروا لنا كل حاجة، احنا بمجرد ماتروح الشمس البلد بتتحول لبيت أشباح .. ضلمة ورائحة مياه عطنة فى كل جانب وبيوت واقعة.

دخلنا لوسط القرية وفى شارع النادى العمومى كان يتكرر مشهد الصراع على المساعدات وعلى نقطة مياه، وفور اقترابى ومحاولتى التصويرعاتبنى أحدهم ظنا أننى أتصيد لهم المشهد، ولما علموا بهدفى وهويتى حملونى أمانة أن أنقل كل ماشاهدته اليوم بصدق.

عذاب الدفن


مررت بمنطقة المقابر وهى لم تخل من مضار السيل، الذى جعل الأهالى فى حيرة كيف يوارون ضحايا السيل التراب، فأصبح الأمرـ كما يقول رضا إبراهيم ـ صعبا بالنسبة للحى وللميت على حد سواء.

مشكلة أخرى تتعلق بالأدوية والعلاج، فالصيدلية الموجودة انهارت بعد أن لطشها السيل بقوة من الجزء الأمامى وبداخلها كميات من الأدوية، وهى نفس شكوى فاطمة شعبان: جوزى عامل عمليات فى القلب وعنده سكر والعلاج اللى صارفينه غرق كله، وبقاله كام يوم مابياخدش انسولين ولا أدوية القلب، ده غير أنى خسرت كل الأجهزة وشفت بعينيا التلاجة والغسالة السيل شايلهم وبيجرى بيهم بعيد.

محمد على عبد الرحمن وأحمد رجب فهيم قالا لنا: العزال غرق كله والزرع مات، ويتساءلان: ليه ماعندناش مصد للسيل زى اللى عملته الحكومة لقرية الود واتكلف 2 مليون جنيه ؟ ويضيفان: ماعندناش إسعاف ولا مستشفى يادوب وحدة صحية بعيدة الله أعلم بحالها، ولوحصل أى طارئ بنعتمد على نفسنا ونشوف أى تروسيكل أو توكتوك ننقل التعبان.

ولأن المشهد لايكتمل بدون أن نضع المسئولين فى الصورة قمنا بالاتصال بالدكتور خالد قاسم مستشار وزير التنمية المحلية الذى أكد أن كل أجهزة الدولة تعمل منذ اللحظات الأولى للواقعة بمساعدة الأجهزة الأمنية والهيئة الهندسية والمحليات وقد تعاونت كل هذه الجهات فى إنقاذ المواطنين العالقين بعد هطول السيل وتوفير أماكن للايواء وأغطية ووجبات لهم ومازلنا مستمرين فى اتخاذ اللازم لمعالجة تداعيات السيل، وندرس حاليا الموقف بشكل متكامل حول وضع القرية بصفة عامة لاتخاذ القرار الأفضل نحو البيوت المتهدمة وما إذا كان سيتم إعادة تطويرها أو بنائها فى أماكن أخرى، مؤكداً أن الأجهزة المعنية مازالت موجودة حتى هذه اللحظة ومستمرة فى مساعدة الأهالى وهناك تكليف بوجود المسئولين والمتابعة المستمرة.

حاولنا التواصل مع اللواء علاء بدران المتحدث الرسمى لمحافظة الجيزة فكان وعدنا أيضا بالتواصل وهو ما لم يحدث، وكذلك خيرى مرسى رئيس مركز ومدينة الصف لم نتمكن أيضا من التواصل معه، وفى النهاية لا يعنينا سوى أن ننقل المشهد كاملا بهذه السطور لكل مواطن ومسئول على أرض هذا البلد، ويجب أن تتداعى له جميع الجهود سواء كانت حكومية أو أهلية بالعون والمساندة.

أخيرا ..هل تستكمل الدولة جهودها فى هذه المناطق كما فعلت فى مناطق منكوبة مشابهة تحولت الآن إلى مناطق سكنية راقية آدمية؟.













رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق