رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

التواصل (2)

منذ عامين وأنا ابحث عن جهاز راديو يشبع متعتى فى الاتصال بالعالم عن غير وسيلة الفضائيات. فللإذاعات معجبوها. وانا منهم. وكان أول ما خطر لذهنى هو البحث عن راديو ماركة فيليبس المصرية التى كنا نعرفها وتعودنا عليها كصناعة مصرية كانت منتشرة فى الريف والحضر. كنا نعرفها كجهاز يعمل بالبطارية ويملكه الفلاح ليصاحبه فى الحقل وليتابع اخبار بلاده كان على موجة أثير واحدة. وتعودنا ان نرى الفلاحين وقد وضعوا الجهاز فى كيس قماش ليحصنوه من اتربة الأرض. بحثت فى أركان القاهرة دون جدوي. وفى كل المحال كان المعروض علي، اجهزة شرق آسيوية. وكنت اعتذر عن شرائها. كنت اعتذر بشدة خاصة أننى قد تعودت على هذه الصناعة منذ ان اشترى والدى اول جهاز راديو لأسرتى فى نهايات العقد الثلاثينى من القرن الماضي. وهكذا استنتجت أننا فقدنا الصناعة الالكترونية، القطاع العام، ضمن ما فقدنا من صناعات، وهى الصناعة التى كانت تمدنا بكل أجهزة الراديو ثم أجهزة التليفزيون المصرية لاحقا بكل أحجامها وطرق عملها سواء كانت بالكهرباء او بالبطاريات خاصة أن القطاع الخاص لا ينتج اجهزة راديو.

ومنذ اكثر من عشر سنوات وانا ابحث عن نوع من الأقمشة المصرية كانت له شهرة عظيمة فى الحقبتين الستينية والسبعينية، وهو الكتان، الذى كثيراما لبسناه جميعا ذكورا وإناثا. وكان يلائم بشكل غير عادى الجو الحار الرطب الصيفى المصري. والغريب انى استمررت اتابع محال الاقمشة فى القاهرة وفى كل محافظة كنت اتجه اليها لأسأل مالك المحل: يا ترى عندكم كتان مصرى صناعة المحلة، وكان دائما الرد بالسلب. ولكن فى احيان كان البائع يقف للحظة ليفهم كلامي: حضرتك بتقولى كتان المحلة؟، فى حين ان البائعين كانوا يرحبون فى القديم ليعرضوا الاتواب بكل ألوانها وعادة ما كانوا يقولون: ده غسل ومش محتاج الا لمكواة خفيفة..

وهكذا كما ننعم بإنتاجنا من أجهزة راديو وملابس وثلاجات وتليفزيونات وأفران وسخانات وأدوية من صناعات مصرية توظف الآلاف من الإناث ومن الذكور. لا ننكر انها لم تكن الأفضل على مستوى العالم. كنا نعلم ان الإنتاج الأوروبى والأمريكى ازهى وربما أكبر وأكثر تنوعا ولكننا كنا نعيش فى ستر ورضاء نفس وننتظر الأفضل مصريا. ولكن الأهم اننا كنا فى طريقنا لبناء انسان مصرى متمكن من فنون إنتاج عصرية، إذا ما تركت له الفرصة، فسوف يسهم هؤلاء العاملون، بتواصلهم مع الصناعة فى ان يبنوا مصر الصناعية الحديثة. وهو ما لم يحدث فقد انقطع هذا التواصل المهم مع الانفتاح وتصفية الصناعات وبدأنا نسمع ما يردده الخبراء بأننا ننتظر استثمارات لم تأت الى مصر لسبب مهم كانوا يرددونه ويكررونه وهو غياب العمالة الماهرة التى تحتاجها هذه الاستثمارات.ومن جانبنا كنا نتساءل: إن لم يكن لدينا عمالة ماهرة فمن كان ينتج لنا هذه السلع التى كنا فرحين بها؟.

وحول هذا الشأن الصناعى المهم أتذكر أحداث إضرابات عمال مصنع المحلة الكبرى عام 2008 التى استمرت لأكثر من ثلاثة شهور وجمعت بين عمال وعاملات المحلة بلا تفرقة، أتذكر انها لم تنحصر فى مطالب الاجور والحوافز وإنما صرحوا لعدة إذاعات أجنبية بان مطالبهم تمتد الى تحديث الآلات وتدريبهم عليها وأنهم مسئولون عن الإنتاج وتطويره.. هكذا كانوا يعلقون لأنهم كانوا على علم بضرورة التحديث والتطوير الذى لم يروه منذ عقود زمنية مضت بالرغم مما قدمته الشركة من مساندة بشرية ومادية لمصر فى أيام السلم ولمرحلة الاستنزاف ثم حرب 73. وهكذا يعلم العمال والعاملات ان الصناعة ليست عملية انتاج وأجور وحوافز فحسب وإنما هى بالإضافة لذلك الاستمرارية والتواصل والتطوير فى العمل من عقد زمنى الى آخر ومن جيل صناعى الى ثان وثالث ورابع. هكذا يتأسس المجتمع الصناعى وتتشكل الثروة البشرية فى كل بلد وهى التى تدفع إلى التطور والابتكار.

فالعملية الانتاجية هذه لا تنتج السلع فحسب وإنما تولد قيما عظيمة تتعلق بقيمة العمل والمشاركة والتضامن والتعاون. ومن هنا يمكننا ان نفسر ظهور تلك الممارسات القيمية غير الجيدة التى بدأت تتبلور منذ العقد السبعينى من القرن الماضى عندما كنا نلاحظ التباعد بين العمل وبين الإنسان المصرى وكيف ان العديد من المصريين العاديين كانوا يرفضون العمل الإنتاجى الصناعى او الزراعى ويفضلون الأعمال الهامشية او الأعمال التى تدر عليهم الدخل الريعي. وابسط نموذج لذلك ما كان يحدث فى الريف عندما يفشل المزارع الصغير فى اللحاق بقطار العمل فى بلدان منابع النفط كان يلجأ لتجريف أرضه وبيعه طميا لمصانع الطوب.

كما أن هذا التواصل الصناعى يسهم فى بناء علاقات حديثة بين العاملين فيها. ومن النماذج لذلك تلك العلاقات التى تنشأ بين جموع العاملين الذكور وجموع العاملات الإناث. فمع انخراط النساء فى العمل فى وحدات الصناعات التحويلية من نسيجية وإلكترونية ودوائية على سبيل المثال يتعود العمال على زمالة الإناث لأن العملية الإنتاجية عملية متكاملة ومندمجة وهنا يصبح طبيعيا ان ينتخب العمال زميلاتهم لعضوية النقابات ومجالس الإدارة ليتطور هذا التوجه بعد ذلك للمجالس النيابية العليا. فقد شاهدنا خلال العقد الستينى ثم السبعيني: قبل تصفية الوحدات الصناعية، مئات النساء العاملات بدأن العمل فى العقد الخمسينى وبدايات الستينى يتولين مناصب قيادية فى إدارات الحكومة والقطاع العام بالإضافة إلى تولى مئات العاملات فى الصناعة إلى مواقع رئيسات الورديات. مادام تعود العاملون على وجود رئيسة امرأة عاملة يسهل عليهم بعد ذلك الترحيب بها كقيادة سياسية او نقابية. فتبدأ الثقافة الجديدة ضد المرأة ويبدأ المجتمع فى ممارسة المساواة الحقيقية.

لابد أن نرحب بالتوجه نحو إعادة تطوير الصناعة المصرية ولكننا نريد استمرار التواصل وعدم الرجوع الى حالات الانقطاع التى مرت بها الصناعة المصرية.


لمزيد من مقالات أمينة شفيق

رابط دائم: