تلوح في الأفق فرص عسكرية وسياسية لتقويض وظيفة الميليشيات المسلحة في طرابلس وإنهاء مرحلة لعبت فيها تنظيمات متشددة دورا متعاظما في صناعة القرار هناك، بعد أن تكشفت معالم تفرض التخلص منها سريعا قبل أن تتحول إلى قوة يصعب تفكيكها، حيث أدركت دول داعمة ومؤيدة لها أو تقاعست عن محاربتها، أنها أصبحت تمثل عبئا عليها بعد أن استنفدت أغراضها، وتراجعت هياكلها بصورة جعلتها ترتكب حماقات تؤذي من وقفوا خلفها، وكان عدم الحسم معها من بين أسباب عدة أفضت إلى استقالة غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا الأسبوع الماضي. فاحت روائح الدعم التركي للعصابات والإرهابيين والمرتزقة بشكل يصعب استمرار الصمت عليه أو تجاهله، كما أن أنقرة نفسها تعاني مأزقا مزدوجا على صعيدي سوريا وليبيا. وإذا كانت الساحة الأولى جلية وهزائم أنقرة لم تعد خافية في إدلب، فالثانية تعرضت لخسائر تتجاوز التدهور الحاصل في جسم حلفائها المتشددين في طرابلس، فلم تجرؤ تركيا على الكشف عن عدد قتلاها هناك، ويقدرون بعشرات الضباط والجنود، خشية أن تتزايد الضغوط الداخلية على كاهل الرئيس رجب طيب أردوغان، وتتأكد المعارضة أنه جر بلاده إلى مأزق جديد في ليبيا، في وقت لا يعرف كيف يدير حساباته في سوريا.
يؤكد اللقاء الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي في باريس، الإثنين، أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تطورات جديدة على صعيدي الحرب والسلام. فاللقاء جاء في أجواء تتغير فيها الكثير من المعادلات المتعلقة بالأزمة، وأهمها تراجع الزخم الدولي الذي حظيت به مع انعقاد مؤتمر برلين وما تلاه من استنفار بعض القوى وحرص على تطبيق هدنة لوقف النار والتمسك بحظر تصدير الأسلحة. علاوة على ترك مبعوث الأمم المتحدة منصبه يأسا من مواجهة تحديات تفوق طاقته أو رغبة في الراحة والاستجمام. مع هذه الاستقالة طويت صفحة عانت فيها الأزمة الليبية ارتباكات دولية عديدة، استفادت منها الميليشيات والقوى الداعمة لها في الداخل والخارج، وأبقتها على قيد الحياة السياسية والعسكرية، نتيجة أخطاء مختلفة ارتكبها المبعوث الأممي المستقيل بسبب إصراره على تطبيق توجهات مشكوك في قدرتها على التوصل إلى حلول ناجحة. مكنت دولة مثل تركيا أن تمد أذرعها، وعززت نفوذ التيار الإسلامي، ومنحت العصابات المسلحة فرصة للتغول على كثير من المؤسسات الرسمية في طرابلس. ولم يبذل الرجل الجهد اللازم لوقف هذه المأساة.
لذلك على المبعوث الأممي المنتظر أن يتحاشى خطأ سياسة ترك الحبل للميليشيات، لأنها حلقة قوية حالت دون استعادة الأمن والاستقرار في طرابلس، وعليه أن يرفع عنها كل غطاء يوفر لها شرعية سياسية، ويمنع كل وسائل الدعم القادمة إليها من تركيا أو غيرها، برا وبحرا وجوًا، ويسد جميع المنافذ التي يتسلل منها المرتزقة والإرهابيون، ويدرك حقيقة التوازنات المجتمعية والدور الذي يمكن أن يقوم به شيوخ القبائل في هذه المرحلة الحرجة لتعديل الدفة التي مالت للمتطرفين في طرابلس. ذهب غسان سلامة لحال سبيله وله ما له من حسنات وعليه ما عليه من سيئات، ولا تزال الأزمة تترنح، هي بحاجة لضبط الكثير من الأوضاع من جانب خليفته قبل تطأ أقدامه الأراضي الليبية، والتي يجب أن تبدأ بالبحث عن وسيلة محكمة للقضاء على الكتائب المسلحة، والتعامل مع ليبيا كمساحة جغرافية شاسعة تتجاوز حدود العاصمة التي كانت مقرا دائما لسلامة ومعاونيه، لا يغادرها إلى مدن أخرى في الشرق أو الجنوب إلا لماما، وتأمين أحواله على حساب المسار الصحيح. ما جعله يبدو منحازا لحكومة الوفاق والجهات المؤدلجة الداعمة لها، وحصر نطاق لقاءاته هناك في القوى القريبة منها، كأنه اختزل الشعب الليبي في سكان طرابلس الذين هاجر عدد كبير منهم هروبا من العمليات الإجرامية للميليشيات.
يمكن أن تحقق الأمم المتحدة نجاحا لافتا إذا أولت اهتماما كبيرا بظاهرة انتشار هؤلاء في ليبيا، وراعت توافر مجموعة من الصفات في مبعوثها الجديد، واستطلعت رؤية المعنيين بالأمر مباشرة في اختيار الشخص المناسب لهذه المهمة الصعبة، وفي مقدمتهم مصر التي حاولت تصويب الكثير من التصورات السلبية التي تبناها سلامة، فاستجاب لبعضها ولم يعبأ بالكثير منها، وأصبح أسيرا لحسابات ضيقة وقفت حائلا أمام قدرته في الوصول إلى تقدم ملموس على أصعدة مختلفة. نعم دشن مسارات التفاوض الثلاثة العسكرية والاقتصادية والسياسية، لكنها لم تحرز تقدما حتى الآن، ولن يتأتي ذلك ما لم يكن هناك تكامل بينها يَضمن التوصل إلى نتائج عملية بدلا من الدوران في حلقات مفرغة. مطلوب مبعوث أممي توافقي يتمتع بقدر من النزاهة والاستقلالية، يضع حدا لعملية انفراد الدول الكبرى بالقرارات وتحديد مصير ليبيا وفقا لأجندة مصالحها التي كانت أحد الدوافع الرئيسية لزيادة العقبات أمام الأزمة، ويوقف ظاهرة عدم الاعتداد بما يدور على الأرض من تفاعلات شعبية ضد المتطرفين، واقتصار هذه القوى على تحقيق رغباتها بصرف النظر عن انعكاسات تحركاتها على مستقبل دولة تمثل أهمية إستراتيجية حيوية لكل من حولها، يصعب تركها لقمة سائغة لفلول من الإرهابيين والمرتزقة وتحويلها إلى منطقة جذب لهم من مختلف أنحاء العالم، مما يمثل خطرا على قوى كبرى تعتقد أنها ستكون بمنأى عن شرورهم.
من الواجب أن يعي الوافد الأممي الأهمية التي ينطوي عليها التنسيق والتعاون مع دول الجوار، وأبرزها مصر التي تعرف جيدا خيوط اللعبة وخباياها الأمنية، ولديها رؤية شاملة للتسوية ورفع كفاءة المؤسسات النظامية وتمكين الجيش من بسط سيطرته على الأمور الأمنية والتخلص من المتشددين الذين تمكنوا من فرض واقع مرير يتطلب تكاتفا إقليميا ودوليا صادقا. وعليه الاستفادة من حرص دولة مثل الجزائر على الانخراط الإيجابي في الأزمة، ورغبتها في القيام بدور يتحاشى الوقوع في أخطاء جعلت ليبيا مصدر تهديد حقيقي لأمنها القومي. ودون الإعلاء من دور الدول المركزية المجاورة سوف تظل الأزمة رهينة قوى بعيدة تملك خططا نظرية غير قادرة على تطبيقها عمليا.
لمزيد من مقالات محمـد أبـوالفضــل رابط دائم: