-
القاهرة ــ موسكو..
-
اختلاط الثقافات عبر بوشكين وتولستوى ومحمد عبده
أتى اختيار عام 2020 ليكون عاما للثقافتين المصرية والروسية تتويجا لتاريخ طويل من العلاقات بين البلدين، وربما يظن البعض أن العلاقات المصرية ــالروسية قد بدأت مع الدعم الروسى لمصر فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولكن التاريخ يؤكد أن تلك الروابط تضرب بجذورها عبر عدة جوانب ولم تقتصر فقط على الجوانب السياسية والاقتصادية, بل كان لها أيضا جوانب ثقافية وعلمية مهمة سبقت التعاون السياسى والدبلوماسي، الأمر الذى يستوجب وجود خطة وبرنامج قوى من وزارة الثقافة وأجهزتها يتناسب مع قوة وتاريخ تلك العلاقات ــ التى نسعى لإبرازها فى هذا الملف ــ من أجل تعزيز أواصر الصداقة بين البلدين وفتح أفق جديدة للتعاون المستقبلى بينهما.
فى هذا الملف نستعرض كيف اختلطت الثقافتان المصرية والروسية عبر بوشكين وتولستوى ومحمد عبده، وعناصر القوة الناعمة التى كفلت للحضارة الروسية نفوذا عالميا، ونعود للتاريخ لنرصد أسبقية التبادل العلمى والثقافى بين البلدين عبر رحلة الشيخ عياد الطنطاوى، وحكاية التنقيب الروسى المصرى عن ذهب سنار، ودور العالم الروسى فلاديمير جولينيشيف فى تأسيس علم المصريات.
وأخيرا نحاول اكتشاف ماذا يقرأ كل من الروس والمصريين عن الآخر.
ما أن توصل الرئيسان عبد الفتاح السيسى وفلاديمير بوتين إلى إعلان 2020 عاما للثقافتين الروسية فى مصر، والمصرية فى روسيا حتى تحول البعض فى أجهزة البلدين صاغرا وعلى استحياء، إلى تقليب صفحات تاريخ البلدين، بحثا بين أضابيرهما عن المشترك فى هاتين الثقافتين، وعما يمكن من خلاله تنفيذ ما أوصى به الرئيسان. ورغم جلال المناسبة وعلو قدرها فى مثل هذه المرحلة المهمة فى تاريخ علاقات البلدين، فإن ما جادت به قريحة المسئولين تظل حتى اليوم، دون وزن وحقيقة ذلك المشترك الذى طالما جمع بين أساطين ونجوم الأدب والثقافة فى البلدين، وحدد الكثير من ملامح ومؤثرات الحضارة المصرية العربية فى الأدب الروسي، وما سبق وتلا ذلك من تأثر الكثيرين من الأدباء المصريين والعرب، بأبرز نجوم الثقافة الروسية.
فى حضارات البلدين الكثير الذى يجمع ولا يفرق، وفى نتاج أساطين ونجوم الثقافة والأدب فى البلدين، ما يفوق هنا وهناك «التنورة وفرق الفنون الشعبية وما هو على غرارها فى روسيا» باعتبارها أفضل وأسهل السبل للاحتفال بعام الثقافتين الروسية والمصرية، فى توقيت تزعق فيه الوثائق بما تزخر به من كنوز ودرر جادت بها قريحة الاولين فى البلدين. ولعلنا لن نكف عن الصراخ والزعيق نذيرا لمغبة توقف آليات «التفاعل» ولا نقول «التبادل الثقافى» عند عام 1974 الذى شهد آخر زيارة لوزير الثقافة المصرية وكان آنذاك يوسف السباعى مرافقاً لمعرض توت عنخ آمون فى موسكو.
ونستهل استعراضنا هذا، ببعض مما تركه لنا شاعر روسيا ومؤسس لغتها الروسية الحديثة الحبشى الاصل الكسندر بوشكين، ومنه ما سجله تحت عنوان «ليال مصرية» وهى رواية لم تكتمل، تسابق الفنانون فى «مسرحتها» تارة فى باليه من إبداع المخرج المسرحى الراقص فوكين، وأخرى فى سيمفونية من إبداع الخالد سيرجى بروكوفييف، وثالثة لميخائيل زادورنوف في «إسكتشاته الساخرة» فى تسعينيات القرن الماضي. ولم تكن الحياة أسعفت بوشكين لاستكمال هذه الرواية التى مزج فيها بين النثر والشعر، حيث قضى نحبه فى ظروف درامية مأساوية ولم يكن بلغ من العمر أكثر من 37 عاما. وقد جرى نشر هذه «الليالي» بقصائدها التسع فى مجلة «سوفريمينيك» (المعاصر) الادبية الشهيرة. ومن اللافت ان بوشكين الافريقى الملامح والعربى الهوي، ورث حبه للشرق عن فترة نفيه الى منطقة القوقاز التى جادت قريحته خلالها بأفضل إنتاجه الشعرى الذى استقى منه عباقرة المسرح والموسيقى بعضا من أشهر إنتاجهم ومنه «نافورة باختشى سراي» (1824) ، و«أسير القوقاز»، وغيرهما مما بدا فيها تأثره بقصائد الغزل العربية والفارسية.
ومن اللافت أن تأثر أدباء روسيا بالدين الاسلامي، لم يقتصر على بوشكين وإبداعاته على غرار «قبسات قرآنية» و«ليال مصرية»، وتجاوزه ليكشف عن عميق اهتمام ليو تولستوى الذى وضع كتابه «أحاديث مأثورة لمحمد»، والذى زاد نتيجة تأثره برسالة بعث بها إليه الامام محمد عبده، سرعان ما رد عليها بأخرى أعرب فيها عن «عميق سعادته بتواصله مع مثل ذلك الامام المستنير، وإن يكن من أهل ملًة غير الملًة التى ولد عليها» على حد تعبيره. ومن فارس الكلمة والموقف والرواية، الى الحالمين ومن قال «ولدت لأكون شاعرا» ، وإن كان له فى عالم النثر قسط وافر من الانتاج الذى يظل يضعه فى مصاف كبار ادباء عصره حتى اليوم، بعد ان كان خرج من رحم الطبيعة وعالم الكناية والتورية، وعشق الأغانى والأساطير والموروثات، منتفضا على واقع عصره وما شهده من تحولات اجتماعية ظالمة فى معظمها. ذلك هو إيفان بونين(1870-1953) الذى سرعان ما نفض عن كاهله حياة الدعة والهدوء، ونزع الى الترحال بحثا عن عالم الحرية الذى وجده فى رحلاته الى الشرق، وكانت مصر منها فى القلب حين اختار التوجه شرقا الى فلسطين وبقاعها المقدسة بوصفها مهبط الاديان ، أو غربا الى تونس والجزائر.
ويبقى بهذه المناسبة أن نناشد المسئولين عن الثقافة فى البلدين الابتعاد باحتفالاتهم عن الشكليات، ودراسة فكرة ترجمة ونشر ما سبق وأشرنا إلى بعضه عاليه من التراث المشترك.
رابط دائم: