شكلت أزمة قضية سد النهضة عامل توتر فى العلاقات المصرية ـ الإثيوبية ـ السودانية نتيجة للمنهج الإثيوبى السابق فى المراوغة والرهان على عامل الوقت واستغلال الظروف والأوضاع التى مرت بها مصر فى عقب التغيرات السياسية التى شهدتها بعد عام 2011 لفرض الأمر الواقع وبناء السد والانتهاء من معظمه، وبالتالى فرض إثيوبيا لشروطها فى المفاوضات تحت مزاعم مفهوم السيادة للمماطلة فى عدم حل القضايا العالقة خاصة فيما يتعلق بملء وتشغيل السد. وعلى مدى سنوات ظلت أزمة سد النهضة تراوح مكانها، بينما تستمر إثيوبيا فى البناء وهو ما شكل خطرا حقيقيا على حصة مصر من المياه, وكانت نقطة التحول المهمة فى ملف سد النهضة فى كلمة الرئيس السيسى أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضى والتى اعتبر فيها أن مياه النيل قضية حياة ووجود للمصريين، وأن مصر لن تقبل بسياسة فرض الأمر الواقع, فى رسالة واضحة للمجتمع الدولى كله, ثم جاء بعدها اجتماع واشنطن فى السادس من نوفمبر الماضى والذى وضع خريطة طريق للمفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان وبرعاية أمريكا والبنك الدولى, عبر ست جولات من التفاوض بين وزراء الرى والخارجية والمندوبين الفنيين فى الدول الثلاث، وتحديد وقت زمنى محدد للتوصل إلى اتفاق, ورغم المفاوضات الشاقة وتصلب الموقف الإثيوبى فى بعض الأحيان إلا أن الجولة الأخيرة من المفاوضات شكلت اختراقا جوهريا فى قرب إعلان التوصل إلى اتفاق نهائى وحل القضايا العالقة حيث تم التوصل إلى توافق حول عملية ملء خزان سد النهضة وربطها بوضع النهر من حيث الفيضان وسنوات الجفاف والجفاف الممتد, بما لا يؤثر بشكل كبير على تدفق حصة مصر من المياه البالغة 55 مليار متر مكعب, كذلك فيما يتعلق بتشغيل سد النهضة وتطوير آلية التنسيق بينه وعملية تشغيل السد العالى وفقا للوضع الهيدروليكى للمياه وبما يضمن ارتفاع منسوب المياه أمام السد العالى حتى لا تتأثر عملية إنتاج الكهرباء, إضافة إلى الاتفاق على آلية ملزمة لحل النزاعات التى قد تنشأ بين الدول الثلاث حول تفسير وتطبيق هذا الاتفاق.
عوامل عديدة أسهمت فى تحقيق هذا الاختراق لقضية سد النهضة, أولها: النهج المصرى فى التعاطى مع الأزمة والذى ارتكز على تغليب الحوار والدبلوماسية فى معالجة القضايا العالقة, وتحقيق التوازن بين اعتراف مصر بحق إثيوبيا فى بناء السد، وتحقيق التنمية وإنتاج الكهرباء, وبين عدم تأثير السد سلبا على حصة مصر من مياه النيل والتى تمثل شريان الحياة الأساسى للمصريين, كما تسلحت مصر فى المفاوضات بموقفها القانونى الصلب فيما يتعلق بالحقوق التاريخية فى مياه نهر النيل التى تنظمها الاتفاقات المبرمة، خاصة اتفاقيتى 1929 و1959, والتى تضمنان حصة مصر السنوية من المياه, كما ان القانون الدولى للأنهار فى صالح مصر، خاصة فيما يتعلق بمبدأ عدم الإضرار، وضرورة الإخطار المسبق للمشروعات المقامة على الأنهار لأنه نهر دولى يمر بأكثر من دولة ويجب التنسيق بين دول المنبع ودول المصب فيما يتعلق بإنشاء السدود مثل سد النهضة, وهو أمر لا يتعارض مع مفهوم سيادة الدول.
وثانيها: التغيرات التى شهدتها كل من السودان مع سقوط نظام البشير وتولى حكومة جديدة مما شكل تغيرا مهما فى الموقف السودانى وتقاربه مع الموقف المصرى فى مواجهة الجانب الإثيوبى, وكذلك تولى آبى أحمد رئاسة الوزراء فى إثيوبيا وتبنيه نهجا مختلفا عن سلفه ميليس زيناوى, مما أوجد حالة من بناء الثقة بين الأطراف الثلاثة شكلت مناخا مواتيا لقرب التوصل إلى اتفاق نهائى.
وثالثها: دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة ممثلة فى الرئيس ترامب ووزير الخزانة ستيف منوشن, ورعايتها للمفاوضات وجولاتها الست والضغط علي الجانب الإثيوبى لضرورة التوصل إلى اتفاق، خاصة أن الرئيس ترامب يسعى لتحقيق إنجاز فى السياسة الخارجية، ومنها ملف سد النهضة, إضافة أيضا إلى وجود البنك الدولى, وأسهم وجود أمريكا والبنك الدولى ذلك فى إخراج المفاوضات من نطاقها الثلاثى الضيق إلى النطاق الدولى الأوسع مما ضيق المساحة أمام الجانب الإثيوبى للمراوغة.
قضية سد النهضة ينبغى ألا تنتهى فقط بالتوصل لاتفاق نهائى حول ملء وتشغيل السد, رغم العقبات والتحديات, وإنما تكون بداية لمرحلة جديدة من الشراكة الإستراتيجية فى العلاقات بين الدول الثلاث بشكل خاص ودول حوض النيل بشكل عام, تتحول من خلالها هذه الأزمة إلى فرصة فى تكريس منهج التعاون والتكامل فى مجالات عديدة، سواء فى العمل المشترك لتعظيم الاستفادة من الموارد المائية الهائلة للنهر والتى تبلغ 1200 مليار متر مكعب سنويا يتم الاستفادة من 80 مليار متر مكعب فقط منها, أو فى تعزيز التعاون الاقتصادى والتبادل التجارى والاستثمارات المشتركة, وإنشاء منطقة تجارة حرة بين دول حوض النيل والعمل على تصفير المشكلات والنزاعات فى بعض دول النيل مثل جنوب السودان, وإقامة المشروعات المشتركة خاصة فى المجال الزراعى ومواجهة مشكلات الأمن الغذائى، وفى إقامة البنية الأساسية مثل مشروعات الكهرباء والصحة والتعليم وغيرها, وذلك انطلاقا من أن التعاون فى مصلحة كل دول الحوض وأقل تكلفة من الصراع والتوتر.
لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد رابط دائم: