رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الاستنارة الروحية فى الديانات الآسيوية

كنت فى بيروت مع جمع من المثقفين العرب، عندما نشر المقال الخامس من تلك السلسلة حول الإنسان وممكنات تساميه. دار المقال حول دور الإيمان فى تحرير الروح البشرى وليس فى قمعه كما يتصور كهنة الأديان وحراس التقاليد، وقد عاتبنى صديقان أحدهما مغربى يعيش فى فرنسا، والآخر عراقى يعيش فى لندن، لقصر حديثى على الديانات التوحيدية، لافتين نظرى لما أعرفه حقا عن ديانات الطبيعة الآسيوية، وكيف أنها تستبطن رؤى وجودية شفافة تؤسس لاستنارة الروح، وتسهم فى بلوغ حالة التسامى التى أدعو إليها فى عالم بات يمور بصراعات مادية تذيب الكائن البشرى فى أنماط حياة وظيفية جافة، وتقصر أهدافه على زيادة ما يملكه من ثروة وسلطة، وليس على ما يجسده من قيم عليا، ولذا أضفنا إلى تلك السلسلة، مقال اليوم حول المجال الحضارى الآسيوي الذى تتوزع روحانيته على ثلاثة تقاليد دينية أساسية:

أولها التقليد الهندوسى الذى يتمحور حول (براهمان)، ذلك الإله المحايد الذى يفلت من الإدراك الحسي، ويُتصور على أنه الكلي واللا متناهى، العلة الأولي، وروح الكون العليا ومنه ينبثق العالم بأسره. وغاية الهندوسي هى الصعود بلا توقف عبورا للهوة القائمة بينه كمتناه وبين البراهمان، بل والفناء فيه إلى حد غيبوبة الوعي التامة كأسمي حالات الغبطة التى بفضلها يغدو الهندوسى قادراً على الوصول إلى القوة الأسمى. ووفقا لوجهة نظر الفيدانتا (كتاب الهندوس المقدس والمكون من خمسة مجلدات تختلف فى مجالاتها)، ثمة خطأ عميق يتمثل فى اعتقاد الإنسان بأنه ذات حقيقة مستقلة، ما يتسبب فى بقائه أسيرا فى شراك العالم المادى، ولذا فالخلاص من هذه الشراك يتحقق بولوج عالم الحقيقة، عبر تأمل باطنى يقوده إلى طريق المعرفة والحقيقة، وينتهى بومضة يقين مثيرة للفرح.

وفى الديانة البرهمية، وهى طبعة ثانية منقحة للهندوسية، تصوغ معتقداتها على نحو أدق فى كتابها المقدس الأوبانيشاد تبدو المفارقة كاملة بين الإله المستتر براهمان وهذا العالم، فهناك: وجود واحد وعدم، كامل كل الكمال وناقص كل النقص، خير كل الخير وشر كل الشر، ودائم كل الدوام ومتغير كل التغير. لكن رغم إطلاق العدم على هذا العالم، ترى البرهمية أن براهما حالّ فيه، ومن ثم تتحدد خطة البرهمى فى الخلاص من النقص والشر والعدم عبر الالتصاق من جديد يالبراهمن وهو أمر غير ممكن إلا بتخليص الروح من الجسد المادى الذى يحلّ فيه حتى تعود الروح إلى وجودها المطلق، وتنطلق من إسار العدم الناقص الشرير، التي كانت قد حلّت فيه!، ولذا يعد مشروعا كل وسيلة تحقق إفناء الجسد بالمبالغة فى الزهد والصوم لأجل غير معلوم.

وأما التقليد الثانى (البوذي) فلا يتمحور حول إله مركزى كالبراهمن، بل ينهض على طريقة فى العيش تقود إلى رياضة النفس وقمع الشهوات، والتحلي بالفضائل، والحصول على العلم. وحسب كلمات (جوتاما بوذا) مؤسس الديانة، فإن المسألة ليست فى الطريقة التى يفلسف الإنسان بها وجوده، بل فى طريقة إحساسه بهذا الوجود، ولذا فعليه ألا يبدد جهده فى تأمل الغيبيات، وأن يكتفى بمحاولة فهم رغباته والتحكم فيها عن طريق الإرادة، لأنها مكمن الخطر عليه. ومن ثم فكل شىء فى عالمنا الفانى هذا لا قيمة له عند البوذى، ولا طريقة للتعامل معه سوى عبر النيرفانا واليوجا. النيرفانا باعتبارها طريقة للاندماج فى الكون دمجاً يزيل الفواصل التى تميز البوذى من محيطه، وتذيبه فى الوجود، فلا يبقى من ذاته المتميزة، أى الـ (أتمان) أثراً، حيث الوجود وحدة واحدة، والبوذى مجرد جزء من الكون انفصل عنه فى لحظة سابقة، ولا يبغى سوى العودة إليه، فعندئذ فقط، أى عندما يعود الجزء إلى الكل، تتحقق له غاية وجوده. أما اليوجا فهى طريقة لترويض جسد الإنسان، الذى لا قيمة له فى ذاته، كونه مجرد وعاء لروحه الخالدة، ومن ثم لا يتوانى البوذى عن محاولة قهره ليكف عن الإلحاح برغباته التى تطمس نقاء روحه.

وأما التقليد الثالث فيمتد فى المجال الصينى ويتوزع على الكونفوشية والتاوية. الكونفوشية ديانة بلا إله كالبوذية، سعت إلى التواصل مع القدسى عن طريق التناغم مع الحركة الكونية، إذ اعتبرت أن الإنسان هو أكثر الكائنات عرضة للانحراف عن التناغم الكونى لأنه أكثرها حرية. وأن عليها استعادة هذا التوافق والانسجام مع القوانين التحتية للكون عبر اتباع القانون الأخلاقى الصارم جين، باعتباره صورة للقانون الكونى، ولذا لا يمكن أن يفرض من الخارج بل هو التزام داخلى يقود فى النهاية إلى الاستنارة الباطنية التى تقود إلى الخلاص. وهكذا فإن الخلاص لا يأتى نتيجة منة علوية بل نتيجة كدح روحى لا تلعب الطقوس والعبادات فيه دورا رئيسيا، فما يبدو شبيهاً بالطقوس فى الكونفوشية ليس أكثر من إجراءات تطهرية تهدف إلى تحضير النفس لحالة الاستنارة الروحية الداخلية.

أما (التاوية) فلا تُعوِّل هى الأخرى على إله فائق بل تضعنا أمام عدد من التصورات الفلسفية يأتى على رأسها (الـتاو)، الذى ينظر إليه مؤسسها (لاوتسو) باعتباره أصلا وجذرا قدسيا لكل الأشياء، فهو الذى يغذيها، ويمنحها الحياة. ومن ثم فإن العيش فى اتساق مع التاو إنما هو عودة إلى الاتحاد مع مصدر الوجود. وما يتميز به مفهوم التاو كمستوى خفى (باطن) للقداسة عن الآلهة الفائقة هو أنه لا يدرك من خلال تعاليم مباشرة بل من خلال تلقائية طبيعية لا قسر فيها ولا إكراه. أما الخلاص فيتحقق عن طريق تحقيق التوازن الكونى بين (اليانج والين) وهما أشبه بقطبين متناقضين على صعيد مستويات الوجود كلها، لابد من الجدل فيما بينها، لأنه لا قيام لأحدهما إلا بوجود الآخر. وهكذا يتصور لاوتسو وكونفوشيوس الخلاص عبر التلاؤم مع النظام الكونى، فلكى يعيش الإنسان حياة متزنة سعيدة لابد أن يلتمس هذا النظام ويسلك فى اتفاق معه، متجاوزا أنانيته وجشعه، بما يقتضيه ذلك من احترام للاجتماع البشرى، وتلك هى طريق الثقافة الآسيوية فى بلوغ التسامى الأخلاقى.

[email protected]
لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم

رابط دائم: