فى سنته الأولى الثانوية - وهو فى السادسة عشرة - أذاع له الإذاعى الراحل فاروق شوشة قصيدة فى برنامجه الشهير، ويومها تحلقت المدرسة وأهل القرية حول المذياع، فأحسّ بمسئولية أدبية. آزر عن اقتناع مبادرة السادات للسلام، فتجلت قناعته فى قصائد ديوانه الأول، لكنه بدا مختلفا فى الموقف والأداة فى ديوانه الثانى «شارات المجد المنطفئة» ودواوينه الأخرى. انقطع عن الشعر خمسة عشر عاما قبل أن يعود ليقدم ثمانية دواوين. درست قصائده فى الدراسات العليا بالجامعة، وترجمت إلى الإنجليزية. فولاذ عبدالله الأنور شاعر الرومانسية والبكاء واللغة الرفافة.. معه هذا الحوار:
كيف تولد القصيدة؟
تحدث صدمة، تتخلق القصيدة جنينا عندما يكتمل التكوين تخرج دفقة شعرية على الورق.
هل تأملت كيف كتبت القصيدة الجيدة؟
عندما تحدث للشاعر صدمة، تحرك خزينا من الفكر والمعرفة راكمه الزمن، وتحرك العامل الأصيل فى نفسه،الموهبة، بالموهبة والخبرات الحياتية تختار القصيدة مطلعها، يسجله الشاعر، وتتتابع الأبيات.
قصيدتك أحيانا طويلة وأحيانا جِد قصيرة، ما المحددات؟
لم ألتفت إلى حجم القصيدة، هى تأتى استجابة للدفقة الشعورية، ويتركز اهتمامى فى النفس الشعرى الذى بدأ، وعليه يتحدد طولها أو قصرها.
هل كتبت مطلعا لقصيدة ثم وجدته غير مناسب فغيرته؟
بالنسبة لى، الفضل دائما للمطلع الأول أو الخيط الرفيع الذى يجر القصيدة إلى الحياة، وقد يبقى المطلع كما هو وقد أغيره عند وضع اللمسات الأخيرة.
هذا يعنى أنك تتأمل ما تكتب، فهل حدث أن امتحنت الموسيقى أو تحولت من بحر إلى آخر؟
هذا ما أسميه رحلتى فى المعمل، وتبدأ بعد الانتهاء من الكتابة، قد تأتى هذه الدفقة الشعريةعلى بحرين، وعندما أشعر بأن الفكرة قد وضحت والصياغة قد أوشكت على الاكتمال ويتحقق الرضا النفسى، يحدث الاختيار بين أحد البحرين طبقا للرؤية الشعرية.
وهل تكتب القصيدة مرة واحدة أم على فترات؟
كتابة القصيدة قد تستغرق شهرا أو شهرين أو ثلاثة، لكن فكرتها تظل ثابتة لا تتغير. بعد الصدمة تحدث صدمة أخرى، وإذا كنت بدأت الكتابة فى قصيدة الصدمة الأولى يحدث توقف وأتركهاعلى رجاء العودة... فإذا عدت ولم اتمكن من الاستمرار على الصورة التى بدأت بها أتركها مطلقا، ولدى نماذج كثيرة لقصائد غير مكتملة.
فى قصائدك تبدو غالبا غير معنى بالبيت والقافية، وإنما بالسطر والصورة؟
صحيح..أحيانا تأخذ القصيدة كلها شكل البيت الواحد، فلا ترتاح الفكرة عند قافية أوعند نهايات الجمل، فيظل النفَس الشعرى ممتدا، لا يعنيه الشكل، بل ينتظر انتهاءه بشكل طبيعى مريح.
وبم يرتبط هذا الارتياح: الفكرة أم الشعور أم العبارة؟
بالشعور، بالحالة الانفعالية، حالة الانفعال لا تنتهى إلا إذا خرجت الدفقة كاملة، فيحدث الارتياح.
كيف تشكل وجدانك وكيف اخترت طريقك؟
تثقفت ثقافة تقليدية فى المدرسة، ودعمتها بقراءة مستمرة فى مكتبة والدى وفى مكتبة سوهاج العامة، وهى مكتبة عريقة، أصبحت الآن مكتبة رفاعة الطهطاوى. بدأ فى هذه المرحلة المبكرة حبى للقراءة والرسم والموسيقى، وكنت أهتم دائما باستعارة الكتب، وأداوم على قراءتها فتشكلت لدى ثقافة حرة.أتذكر أن والدتى لاحظت انخراطى فى القراءة الحرة، فنبهتنى إلى مذاكرة دروسى، وهددت بإخبار أبى، واستدعانى مدير المدرسة، فوجدت أبى فى مكتبه، وقال أمامه: ليت كل التلاميذ كفولاذ، هذه القراءات ستفيده جدا.
متى وعيت أنك شاعر؟
مبكرا جدا، كان زملائى يظنون أننى أنتحل شعر أبى. ولكن وأنا طالب صغير فى الصف الأول الثانوى أرسلت بالبريد قصيدة إلى الشاعر الكبير فاروق شوشة فرد بأنه سيذيع قصيدتى فى برنامجه وحدد الموعد، وكانت ضجة، وتحلقت الأسرة وأهل القرية حول المذياع لسماع القصيدة وقت إذاعتها. لكنها لم تذع فى اليوم المحدد. أصبت بصدمة، لكن أبى هدأ من روعى، وفوجئت بخطاب آخر من شوشة يعتذر ويحدد موعدا جديدا. وأذيعت القصيدة بالفعل. وشعرت وقتها بالمسئولية الأدبية التى ألقيت على عاتقى.
بمن تأثرت من الشعراء فى البداية؟
فى المرحلة الإعدادية كنت معجبا بالشابى، ومن تأثرت بهم كُثْر، لكننى عرفت طريقى.
فى ديوانك الأول «رايات السلام» كنت سياسيا أكثر منك شاعرا؟
أعجبت بمبادرة السلام التى فاجأ بها الرئيس الراحل السادات العالم كله حتى الأعداء، ورأيتها تحولا جوهريا فى المنطقة والعالم رغم حداثة سنى وقتها، كنت معه مائة بالمائة، وحمل هذا الديوان هذه الرؤية. وواجهت حربا شديدة من أبناء جيلى من رافضى المبادرة. لكن الأيام أثبتت صحة اختيارى.
وكيف عبرت عن رؤيتك؟
نحن فوق الشعارات/ فوق الكلام/ نحن حين رفعنا غصون السلام/ وعبرنا إلى الضفة النائية/ كان فى يدنا الثانية/ يتلألأ سيف الحمام.
لولا نصر أكتوبر لما استجيب لمبادرة السلام.. كيف عبرت؟
يا حارس الحضارة/ أنت بذلت الدم/ منذ دوّت الشرارة/ واندحر العدوان/ والطفل فى المغارة/ وأمه مريم/ وجهان يضحكان.
الرؤية فى ديوانك الأول «رايات السلام» مختلفة عنها فى الثانى «شارات المجد المنطفئة» إلى حد التناقض؟
نعم، الرايات رمز دال على الزهو والانتصار، و«الشارات المنطفئة» دال للعكس. فى «شارات المجد» معالجة لقضايا الإنسان المعاصر بعد التغيرات الباهظة التى حدثت فى المنطقة، فأى أمة إذا استمرت فى مسار محدد فترة طويلة يحدث لها استقرار. لكن مجتمعنا شهد تقلبات دراماتيكية. وانعكس هذا بالطبع على الشعراء؛ ولذلك فإن قضايا هذا الديوان تدور حول مأساة الإنسان المعاصر.
ديوانك الثالث «عودة الأحلام الغائبة» صدر عام2002، بينما ديوانك الثانى «شارات المجد» 1987. هذا الفاصل الزمنى الكبير يثير التساؤل؟
نعم توقفت عن الإبداع طوال هذه الفترة.
وما منعك؟
حالة من حالات التغيب التى تنتاب النفس البشرية.كنت قررت الانصراف عن كل شيء والانقطاع لقراءة الفكر الإسلامى، بعد عدة قراءات فى الكتب السماوية وكتب الديانات الوضعية. كنت مشغولا آنذاك بالمعانى والقيم الإنسانية الكبري؛ لأننى كنت فى مرحلة الشباب وفورة الفكر، أبحث عن مرفأ، وربما كان العقل الباطن يعمل فى اتجاه معرفة الذات،عانيت هذه الحال حتى بلغت الخامسة والثلاثين، وبعد القراءات التى استغرقت نحو أربع سنوات خرجت أشد ارتباطا بعقيدتى، وقررت حفظ القرآن، وحفظته وأنا فى تلك السن عن ظهر قلب، ما أثار دهشة الدكتور محمود الربيعي؛ لأننى كسرت قاعدة أن الحفظ سهل فى الصغر شبه مستحيل فى الكبر. وتحققت لى حالة الرضا والهدوء النفسى.
إذا كنت عانيت القلق الوجودى قبل زوال الحُجُب فالتحقق الوجودى لا ينفى قلق الإبداع، بل قد يؤججه؟
نعم، الشعراء متوترون دائما للقصيدة، الشاعر دائما فى منطقة الرفض والقلق، ولكننى كنت غارقا فى القراءة والبحث عن الحقيقة منصرفا عن الشعر.
ما دفعك إلى العودة؟
كنت فى فترة القراءة والبحث أخطب الجمعة رسميا، وفى أثناء الخُطبة كان يتفلت منى البيت والبيتان على البديهة. وهكذا حتى انبعثت الرغبة فى التعبير عن الآلام والآمال بالقصيدة.
فى قصيدتك «الضلع العائد» تتناص مع الحديث الشريف عن خلق المرأة، كيف تنظر إليها وكيف تتعامل معها؟
المرأة نبع الفنون، الباعث الحضارى للإنسان، وكل النساء فى الإلهام سواء، ولكنى مع الزمن أصبحت أكثر احتفالا بجمال الروح والعقل،هناك نساء لديهن الجمال الذهنى بالفطرة، هذا هو الذى يأسرنى.
فى قصيدة «أفق أزرق» تبدو منطلقا من الواقع والحقيقة إلى الخيال البعيد؟
لا فكاك من الخيال، حياتنا متعلقة بالغيبيات، والغيب هو الذى يشكل الخيال، فإذا لم يجد الشاعر نفسه فى «أفق أزرق» لا محدود يكون الشعر طائرا بلا جناح.
قصيدتك «رائعة الأيام» تتناص مع «ابن زيدون»، ما دفعك إلى تشكيلها هكذا؟
«رائعة الأيام» و قصائد هذا الديوان لها خصوصية ليست لسواه من دواوينى.أن الملهمة التى أيقظت الماضى الدفين فى إحساسى المبكر بالحياة فرضت عليّ الحذر أثناء الكتابة، أن أبتعد عن العمق الفكرى، أن أراعى مستوى ثقافتها. كانت القصيدة استجابة تلقائية وبحثا عن أسلوب جديد من خلال الاشكال الشعرية التى تحبها، ولذلك كانت القصيدة تمضى على نحو تأملى صعب.
فى «الخروج إلى بابل» تمنيتَ ألا ينحنى للرصاص نخيل الفرات..تبدو خائفا بلا حد على المستقبل؟
الهم العربى المعاصر ماثل فى أذهاننا دوما، مقارنا بالشموخ العربى القديم، ذلك الشموخ له حضوره حتى من قبل ظهور الديانات.هذه القصائد أدوات تحفيز لمن له أحاسيس سلالية لتتحرك مشاعر ودوافع الانتماء عسى أن يخرج من أبناء الأمة من يقودون ومن يفكرون ملتفتين إلى ماضيهم وتراث أجدادهم.
فيم تفكر الآن؟
تنتابنى حالات تفكير فيما بعد الحياة، خاصة حياة البرزخ. وقصيدتى الأخيرة «الخروج من الكهف» تعبير عن هذه الحالة: فالعمر ولى هينا/ وحان للمقيم أن يغادر النزل/ فلنجلس الآن على هامشة الرحيل/ ونفتح المجلدات بيننا/ ونفحص الكتب.
رابط دائم: