رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

لاعتبارات تاريخية وسياسية واقتصادية..
برلين وأزمة قيادة الاتحاد الأوروبى بدون منافسة

رسالة لندن منال لطفى
> خروج بريطانيا من الاتحاد يسبب كثيرا من المشاكل لألمانيا

فى واحدة من زياراتها العديدة إلى ألمانيا للقاء المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، حُبست رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماى فى سيارتها الليموزين أمام مبنى المستشارية فى برلين فى ديسمبر 2018 لعدة ثوان. حاولت ماى فتح باب السيارة للخروج دون طائل حتى تدخل حارسها الخاص وفتح الباب. الثوانى التى قضتها ماى «محبوسة» فى سيارتها كانت مدعاة لسخرية كبيرة فى ألمانيا. وفى البرنامج الكوميدى الألمانى «هويت شو» سخر المعلق من أن «ماى لا تستطيع الخروج - لا من سيارتها ولا من الاتحاد الأوروبي».

 

هذه السخرية والشماتة كان لها وجهان، فمن ناحية استمتع كثير من الألمان بمشاهدة بريطانيا عالقة فى الورطة الكبيرة التى سببها البريكست، لكن من ناحية أخرى، كان كثير من الألمان يأملون فى أن تجبر صعاب البريكست البريطانيين على تغيير رأيهم. فألمانيا لاعتبارات تاريخية وسياسية واقتصادية عديدة لم تكن تريد حدوث البريكست ولا مغادرة بريطانيا ولا قيادة المشروع الأوروبى منفردة. وبالتالى عندما خرجت بريطانيا نهائيا ورسميا فى 31 يناير الماضى تلقى الألمان الخبر بصمت حزين وتأمل قلق.

حالة إنكار ألماني

فأكثر من أى دولة أوروبية أخري، كان الألمان فى «حالة إنكار» حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ستيفانى بولزن، مراسلة صحيفة «داى فيلت» الألمانية فى لندن، لخصت العلاقة الفريدة بين الألمان والبريطانيين بأنهم بطريقة ما «ينتمون معا... نعم، البريطانيون غريبو الأطوار بعض الشيء، لكنهم جزء من العائلة. هم مثل أبناء العم الذين يزورون الجدة فى عيد الميلاد. يشربون ويلقون النكات... وقد افترض كثير منا سرا أن (ابن عمنا) لن يغادر العائلة. فالألمان مقتنعون بأن البريطانيين حصلوا على أفضل صفقة عضوية فى الاتحاد الأوروبى وأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فكرة سيئة. لم نعتقد أبدًا أن بريطانيا ستتركنا فى الواقع عالقين، وحدنا مع تلك العلاقات الأوروبية المريبة الأخرى».

وبالنسبة لألمانيا كانت بريطانيا دائما «رمانة ميزان» الاتحاد الأوروبي. ففى وجه التطلعات الفرنسية لتعزيز الاتحاد الأوروبى سياسيا وأمنيا وعسكريا ليصبح «الولايات المتحدة الأوروبية»، لعبت لندن دور «الفرامل» وخفضت سرعة الهرولة الفرنسية. هذا الدور البريطانى كان ملائما تماما لألمانيا. فبرلين لديها نفس البرجماتية البريطانية، لكنها لديها أيضا نفس الرؤية والقيم الفرنسية التى ترى أن الاتحاد الأوروبى لا يمكن أن يكون «سوق موحدة فقط»، فهو مشروع سياسى -أمنى أيضا.

وبين رغبة باريس «التقدم خطوتين للأمام»، ورغبة لندن «الرجوع خطوة للوراء» فى مشروعات الاندماج السياسي، لعبت برلين دور «الوقوف محلك» حتى تتم إعادة ضبط المشروع الاوروبى الذى عانى من مشكلات غير مسبوقة خلال العقد الماضي.

ففى نظر كثير من الألمان من الصعب على ألمانيا الحفاظ على الاتحاد الأوروبى قوياً وفعالاَ بدون بقاء دولة كبيرة مثل بريطانيا، تشارك بنصيب كبير فى الميزانية، وتنخرط فى الواجبات الدفاعية والأمنية، وتضع المبادرات السياسية. ومن وراء الأبواب المغلقة، عملت ألمانيا أكثر من أى دولة أوروبية أخرى على إقناع بريطانيا بعدم المغادرة.

وخلال فترة ولاية تيريزا ماى بين 2016 و2019 كانت الصحافة الألمانية تسخر منها على نحو دائم ولاذع. لكن تحت ستار السخرية «عشم» ان ماى قادرة بطريقة ما على تمرير بريكست ناعم أو وقف البريكست كله. فقد كانت هناك «تنهيدة ارتياح» فى كل مرة تفقد فيها ماى تصويتا لتمرير اتفاقيتها للبريكست فى مجلس العموم. وأصبح دونالد تاسك الرئيس السابق لمجلس أوروبا ذا شعبية كبيرة فى الشارع الألمانى بسبب تكراره أنه «لا يزال هناك وقت أمام بريطانيا للتراجع عن البريكست». وكان معظم المعلقين الألمان يخلصون إلى أن بريطانيا فى نهاية المطاف ستعود لرشدها وستجرى استفتاء ثانيا يلغى البريكست وتعود لعضوية الاتحاد الأوروبي.

لكن الألمان أدركوا أن البريكست واقع لا محالة أولا عندما فاز بوريس جونسون بزعامة حزب المحافظين خلفا لماى وانتقل إلى 10 داوننج ستريت منتصف 2019، ثم ثانيا عندما اكتسح الانتخابات العامة المبكرة فى 12 ديسمبر الماضي.

ولم تكن صدمة اكتساح جونسون للانتخابات وخروج بريطانيا رسميا من الاتحاد الأوروبى لتأتى فى وقت أسوأ بالنسبة لألمانيا.

مائدة طعام مجانية

بالنسبة للألمان يشبه البريكست إلى حد كبير الطلاق. فهو مؤلم ودفع ألمانيا لالتزام الصمت والتأمل فى المشهد الأوروبي. فأزمة الديون اليونانية تسببت فى تعزيز المخاوف إزاء التكامل الأوروبى والسخط حيال قيود العملة الموحدة اليورو. وقبل غيرهم، يدرك الألمان جيدًا أن مشكلات منطقة اليورو أبعد ما تكون عن الحل. وفى الوقت نفسه، تستمر بلدان مثل بولندا والمجر بلا رادع فى ممارسات تؤدى لتآكل جوهر القيم الأوروبية من خلال تقويض استقلال وسائل الإعلام والقضاء. ويخشى كثير من الألمان أنه بعد البريكست، ستجد ألمانيا نفسها فى اتحاد يسيطر عليه المستغلون، أى تلك الدول التى انضمت للاتحاد الأوروبى وهى ترى فيه «مائدة طعام مجانية»، أى هؤلاء الأعضاء الذين يستفيدون من العضوية اقتصاديا بدون أن تربطهم روابط قيمية وأخلاقية وسياسية به. فمثلا يفخر الألمان بحدود أوروبا المفتوحة بين الدول الأعضاء الـ27؛ فالسوق الموحدة إنجاز تاريخى وفائدة اقتصادية هائلة، لكن الألمان يدركون أيضا أن الحدود المفتوحة تعنى استمرار انتقال العمالة ووصول المهاجرين مما سيؤدى إلى تعزيز صعود اليمين المتطرف فى أوروبا وفى ألمانيا أيضا، حيث بات حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليمينى الشعبوى أكبر حزب معارض فى البرلمان الألمانى (البوندستاج)، بعدما أدت وعود الحزب بـ «استعادة السيطرة على الحدود» إلى نمو سريع ومطرد فى شعبيته.

كما يمر حزب ميركل «الحزب الديمقراطى المسيحي» بانقسامات حادة، وبعد 15 عاما من حكم أنجيلا ميركل، تعانى السياسة الألمانية الشلل التام وهى تحتاج إلى دماء جديدة لكن الانقسامات وصعود اليمين الشعبوى يضعف القوى السياسية التقليدية.

وفيما يعانى الاتحاد الأوروبى مشكلات كبيرة، تتجه الأنظار إلى ألمانيا لحلها، ففرنسا لديها مشكلاتها الداخلية الكبيرة. لكن ألمانيا لا تريد قيادة المشروع الأوروبى منفردة أو بلا منافسة. فتاريخ ألمانيا الحديث وذكريات الحرب العالمية الثانية ما زال البعض يستغلها للتخويف من «القوة الألمانية». كما أن سياسات ألمانيا خلال الأزمة المالية 2008 وإجبارها دولا مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا على تنفيذ سياسات تقشف حادة قبل منح تلك الدول أى قروض جديدة أدى لانتشار العداء لألمانيا وسط محيطها الأوروبي. فالتقشف، الذى كان ضرورياً فى رأى الألمان حتى لا تخرج أزمة الديون الأوروبية عن السيطرة وتؤدى لانهيار اليورو، أدى لتكلفة إنسانية واقتصادية كبيرة فى دول جنوب المتوسط والبعض ما زال يحمل المانيا مسئولية الفقر والاستقطاعات الحكومية وتباطؤ النمو فى تلك الدول.

وبينما تتكاتف ألمانيا وفرنسا حاليا لمواجهة آثار خروج بريطانيا من الاتحاد، فإن البعض يعتقد أن مواجهة آتية بين باريس وبرلين على خلفية الخلافات حول تعزيز الوحدة السياسية والأمنية فى الاتحاد. فألمانيا لا تريد أن تحمل على عاتقها مسئولية التوسع السياسى والعسكرى والأمنى لأن هذا سيعزز «الفوبيا من ألمانيا» فى أوروبا. وهى فوبيا لا تعانيها الدول الصغيرة فقط مثل بولندا التى احتلتها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، بل دول كبيرة مثل بريطانيا. فرئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت ثاتشر، التى ساهمت مع الرئيس الامريكى الراحل رونالد ريجان فى إسقاط حائط برلين والاتحاد السوفيتى السابق، شعرت بالخوف الشديد من احتمالات توحيد شطرى ألمانيا الغربية والشرقية فى نهاية الثمانينيات. وتدهورت علاقاتها مع المستشار الألمانى الراحل هولمت كول بسبب ذعرها من توحيد ألمانيا. وكانت ثاتشر تقول للوزراء فى حكومتها إن توحيد ألمانيا قد يكون «بداية نهاية» عضوية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبي. وهذا ما كان، فصعود ألمانيا الصاروخى منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم لتصبح «قلب أوروبا النابض» و«محركها الصناعي»، لا شك ساهم فى شعور لندن بتهميش دورها وهذه هى جذور البريكست فى نظر كثيرين. فكل مشروعات التكامل الأوروبى كانت تتم بتوافق ألماني-فرنسى وضد رغبات بريطانيا، ما جعل لندن تشعر أن مكانها يتراجع فى الاتحاد الأوروبى وأنه لا مجال لوقف ذلك التراجع.

ومع البريكست بات لدى برلين وباريس حرية تمرير كل المشروعات المؤجلة للوحدة بدون منغصات لندن، لكن هذه الحرية بالنسبة لألمانيا هى عبء ثقيل اقتصاديا وسياسيا وتاريخيا. فالبريكست لم يلق بظلاله على الوضع فى بريطانيا فقط، بل على الوضع فى ألمانيا أيضا وبنفس الدرجة تقريبا.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق