رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أسوار الماضى

قد يخلق الماضى سجنا للعقل، حين يضرب أسواره العتيقة حوله، ويجعله مقموعا محاصرا، وليس ثمة شيء أقسى من حصار العقل؛ لأن حصار العقل سيمثل انحسارا للخيال والأفكار الطليعية التى تنهض من خلالها الأمم وتتقدم مع حركة التاريخ دون إبطاء أو تعثر.

قد نستعذب الماضى على سبيل الحنين إلى أمانينا وذكرياتنا، وقد نجد فيه ما يؤنس وحدتنا أحيانا، هذا على المستوى الفردى، ولا يتجاوز ذلك أكثر من سياقات المحبة للبشر والأمكنة والذكرى نفسها التى وصفت فى أدبيات مختلفة بأنها الفردوس الأرضى الوحيد الذى لا يمكن أن يطرد منه الإنسان أبدا. لكن استدعاء الماضى بوصفه طريقة فى التفكير، ونمطا فى رؤية العالم يمثل إشكالية كبيرة للعقل العام، وهى إشكالية يمكن تلمسها دون أى عناء فى التصورات المختلفة التى تتبناها الذهنية العربية حول تقديس الماضى والتلذذ بالعيش فيه، والتمنى المستمر لإعادته بوصفه طريقا للفوز والنجاة، ويرتبط هذا المعنى المتمترس فى الوعى العربى بالسياق الدينى الذى يرى القرون الأولى خيرا وأبقى، والتصورات الفقهية التى جعلت من الماضى حجة على الحاضر، وحاكما لحياة البشر التى تختلف يوما بعد يوم. وحين نقدس الماضى فإننا نسهم فى سجن العقل والأفكار، وتحويلهما فى أكثر الافتراضات تفاؤلا إلى تابعين للقديم، وتتضاءل قيمة الإبداع لصالح الاتباع، ويصبح النقل بديلا عن العقل، بل وتحل ثقافة الموت محل ثقافة الحياة ذاتها!. هنا وعبر هذا الفهم يتحول الماضى إلى سلوك يومى يعتاده الناس، ولا يقدرون على العيش خارجه، وإن صنعوا ذلك فيقع معظمهم فى ازدواجية الجمع بين المتناقضات، والخلط بين الأشياء بدعوى التوفيق، وبإلحاح من هاجس التوسط بين الأمور، فنرى النقل والعقل مترافقين رفقة ملفقة!.ويتخذ الماضى تجليات متعددة فى واقعنا، ففضلا عن تحديده علاقتنا بالعالم، وقيامها على تقديس القديم، فإنه يؤثر فى فهمنا لجوهر مشكلاتنا الراهنة ويعوق تصدينا لها فى كثير من الأحيان، فالإدارة الجيدة المعتمدة على أهل الكفاءة لا الثقة، والإيمان بقيمة العمل، وقبول الآخر، واستيعاب المختلفين، وتقدير المرأة تقديرا حقيقيا، تبدأ جميعها من تسييد وعى جديد منفصل عن التصورات القديمة، التى تقول الشيء ونقيضه، فتتحدث عن مكانة المرأة ثم تدعو إلى ضربها تقويما لها!، فى مفارقة يمكن تلمسها فى موضوعات عديدة فى واقعنا الاجتماعى، فالغلظة والقسوة المفرطة فى التعاملات اليومية تتخفى خلف ستار من التدين الزائف، وتسييد الجهل.

وفى هذه المناخات التى تؤسس لهيمنة الماضى يجد خطاب الجماعات الدينية رواجه الخاص، باعتباره محتكرا لهذا الماضى احتكاره للحقيقة نفسها، ويستثمر بيئة التأسلف هذه للتكريس لمقولاته وتمريرها، خالطا بين الدينى والسياسى، وساعيا صوب الوصول إلى الحكم عبر بوابة المقدس، ويطرح مفهوم الجماعة بديلا عن مفهوم الوطن، وتصبح المواطنة لديه هى أخوة الجماعة الدينية، ونبذ وإقصاء ما عداها. ويصبح الواقع الاجتماعى مشغولا طيلة الوقت بقضايا هامشية وفرعية، ويلجأ لنمط التفكير الخرافى فى مواجهة مشكلاته، ويتجاهل قيمة العمل وينسى الأخذ بالأسباب أو يتغافل عنها تحت وطأة الترسانة الهائلة من المقولات التى شكلت العقل العام عبر مئات السنين، والتى صنعت ذلك السور العتيق، بدءا من عبارة من تمنطق تزندق، إلى إهمال الفلسفة، والنظر بريبة شديدة للفن، وصناعة القبح والترويج له، وإشاعة أجواء من الخوف والترقب المستمر، بدلا من الأمل والتمنى الجميل والموضوعى وليس السطحى أو الساذج. وليس هناك شيء أشد فى عتامة الماضى من تحول الأفكار إلى قنابل جاهزة للقتل والتدمير، فخلف كل إرهابى تكمن فكرة قاتلة يعتقد فيها كل المتطرفين الذين يستقون تصوراتهم من تراث فقهى متشدد، يرى المجتمع كافرا ويعتقد بأن جماعته الإرهابية هى الفرقة الوحيدة الناجية!.

كان المفكر والناقد الألمانى تيودور أدورنو يخبرنا دائما بأنك أن تحكى شيئا فمعناه أن تتوافر على شيء خاص لتقوله لنا، فإذا كان منطق الكتابة يتأسس على الحكى على غير منوال سابق، وعلى خصوصية العوالم والطروح والأفكار، فإن الخروج من سجن الماضى وارتياد المناطق الجديدة لا بد وأن يتأسس على وعى جديد، ولكى يحدث ذلك يجب أن يصبح التفكير النقدى مركزا فى النظر إلى العالم، فكل شيء خاضع للتأويل، وقابل لأن يوضع موضع المساءلة المستمرة، ولم يكن مبدأ التنوير الأساسى كن شجاعا وحرا واستخدم عقلك بنفسك سوى تعبير عن حيوية الاختلاف هذه، والرغبة العارمة فى عالم بطله الحقيقى هو الإنسان الفرد، الذى تتأكد إنسانيته وجدارته عبر خروجه من سجن الأسلوب الغوغائى فى التفكير إلى براح الفكر النقدى ورحابته.


لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله

رابط دائم: