لم يأت الرئيس ترامب بجديد فى خطته للسلام التى طرحها واعتبرها كسرا لحالة الجمود فى عملية السلام, فالخطة لا تمثل فقط إجحافا للحقوق الفلسطينية المشروعة وإنما هى محاولة لتصفية القضية الفلسطينية وفقا لما هو مرسوم لها إسرائيليا فى إطار سلام الأمر الواقع أو السلام على الطريقة الإسرائيلية.
تصور ترامب للسلام أو التسوية هو تصور حزب الليكود والحكومات الإسرائيلية منذ عقود وهو, كما تتضمنه بنود الخطة, إقامة حكم ذاتى فلسطيني, يطلق عليه اسم دولة, دون سيادة ومنزوع السلاح ويضم مناطق معزولة فى قطاع غزة والضفة وأجزاء من صحراء النقب وبعض أحياء البلدة القديمة فى القدس الشرقية, التى تضم أبو ديس والعيزرية وسلوان, تمثل عاصمة للكيان الجديد أو الدولة الوليدة, مع استبعاد حق العودة للاجئين, فى مقابل بعض الإغراءات الاقتصادية بضخ 50 مليار دولار لإنعاش الاقتصاد الفلسطينى او بشكل أدق تحسين معيشة الشعب الفلسطينى فى إطار سياسة العصا والجزرة التى تتميز بها السياسة الأمريكية.
خطة ترامب شكلت خطوة أكثر تطورا نحو مزيد من استقطاع الحقوق الفلسطينية, وسياسة الاختزال على مراحل التى طبقتها إسرائيل ومعها أمريكا منذ انطلاق مؤتمر مدريد فى التسعينيات من القرن الماضي, حيث تم اختزال القضية -من حق الفلسطينيين فى إقامة دولة مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية بما يشكل 22% من أرض فلسطين التاريخية -فى مجرد إقامة كيان يضم كانتونات معزولة فى الضفة وغزة لا تمثل أكثر من 15% من أرض فلسطينى التاريخية, وكأن الرسالة الأمريكية والإسرائيلية تقول إن الحق الفلسطينى ليس هو ما تقرره الشرعية الدولية من عشرات القرارات من مجلس الأمن الدولى وأشهرها القرار 242 والقرار 338 وقرار عودة اللاجئين 194 ثم القرار الأخير رقم 2334 لعام 2017 بموافقة 14 دولة الذى اعتبر أن كل ما قامت به إسرائيل من إجراءات فى الأراضى الفلسطينية يعد باطلا ولاغيا وكأنه والعدم سواء, إضافة لعشرات القرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة, وإنما الحق الفلسطينى هو ما تمنحه إسرائيل وأمريكا وتسمحان به للفلسطينيين, بل تهديدهم بأن عدم قبولهم للخطة يعنى إضاعتهم المزيد من الفرص وأنه فى كل مرة تطرح أمريكا مبادرة وتصورا للسلام فإنه لن يأتى أفضل من ذلك, وبهذا المعنى فإن رفض الفلسطينيين لخطة ترامب يعنى ان العرض القادم للفلسطينيين سيتضمن إقامة كيان لهم على أقل من 10% من مساحة فلسطين التاريخية.
المنطق الإسرائيلى والأمريكى المغلوط يرتكز على سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة واستغلال موازين القوى المختلة لمصلحة إسرائيل لفرض السلام على الطريقة الإسرائيلية, ومن أجل ذلك تبنت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة إستراتيجية تضمنت عددا من المسارات المتوازية, أولها تغيير الأوضاع على الأرض, خاصة الديموغرافية والجغرافية, من خلال سياسة توسيع وبناء المستوطنات فى الضفة الغربية وإقامة الجدار العازل لتقطيع أوصال الضفة, وكذلك تهويد القدس الشرقية وتغيير ملامحها العربية وتحزيمها بالمستوطنات والتضييق على السكان الفلسطينيين. وثانيا إطلاق مسار للمفاوضات وهو الذى تستغله إسرائيل فى إضاعة المزيد من الوقت والمضى قدما فى سياسة الأمر الواقع, وتوظيفه فقط للظهور بأنها مع السلام والمفاوضات وتدعى غياب شريك فلسطينى قادر على صنع السلام, بينما شروطها التعجيزية ولاءاتها الشهيرة, لا لدولة فلسطينية مستقلة, ولا للقدس الشرقية عاصمة للفلسطينيين ولا لعودة اللاجئين, هى ما أفشلت كل مبادرات السلام التى طرحت سواء من الجانب الأمريكى وأخرها مبادرة جون كيرى فى عام 2014 أو من الأطراف الأخري, ولذلك لم تنجح أى مفاوضات للسلام خلال العقود الثلاثة الأخيرة, ليس لأن الجانب الفلسطينى ومعه الجانب العربى والإسلامى لا يرغب فى السلام, بل على العكس المبادرة العربية للسلام تؤكد رغبة العرب فى ذلك, وليس لغياب الشريك الفلسطينى كما تزعم إسرائيل, وليس لأن الفلسطينيين يضيعون الفرص, وإنما ببساطة لا يمكن للفلسطينيين ومعهم العرب القبول بالسلام على الطريقة الإسرائيلية والأمريكية لأنه لا يلبى حتى مجرد الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, الذى من حقه كبقية شعوب الأرض أن يعيش فى دولة مستقلة لها كل مقومات الدولة القابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية التى تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية ولا يمكن بحال التنازل عنها أو القبول بأى صيغة للتسوية لا تشملها, وأن تنتهى معاناة ملايين اللاجئين المشتتين فى كل أنحاء العالم.
السلام على الطريقة الإسرائيلية ومنطق فرض الأمر الواقع لا يمكن بأى حال أن يوفر الأمن والاستقرار لإسرائيل, بل عمليا يضر بها وبمستقبلها, لأنه ببساطة سلام مختل ويعنى استمرار هذا الصراع التاريخى المعقد, كما أنه لا يمكن أن يؤسس لحقوق إسرائيلية أو يغير من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى التى تقرها الشرعية الدولية, القانونية والأخلاقية, فالسلام العادل والشامل القائم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967وعاصمتها القدس الشرقية هو فقط الذى سيوفر سياج الأمن والأمان والاستقرار لإسرائيل وإقامة علاقات تعايش طبيعية مع جيرانها فى المنطقة ويعزز المصالح الأمريكية فى المنطقة ويطوى صفحة هذا الصراع التاريخى المرير الذى تزداد تكلفته يوما بعد الآخر ويدفع ثمنها شعوب المنطقة بسبب استمرار التعنت الإسرائيلى والانحياز الأمريكى.
لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد رابط دائم: