رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أوامر بالقتل!

طيرت وكالات الأنباء العالمية، الأسبوع الماضي، خبرا مفاده أن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون قلد المؤرخ التركى تانير أكشام وسام ميدالية الشجاعة، تكريما لجهوده فى تأليف كتاب (أوامر بالقتل) الذى فضح فيه إنكار السلطات التركية المذابح ضد الأرمن, والتى راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرميني، فى بدايات القرن الماضي، حيث أثبت الكتاب صحة برقيات عثمانية أمرت بتنفيذ الإبادة. وخاطب ماكرون أكشام: فضحتم الإنكار التركى للإبادة، مما يسمح بالعمل على التاريخ والذاكرة والعدالة، مؤكدا أن هذا الأمر سيكون أساسا للنقاش مع القادة الأتراك، وندد بالاستراتيجية التركية الهادفة للتوسع فى الشرق الأوسط وإنكار الجرائم.

يتوهم النظام التركى المتعلمن الديمقراطى شكليا، الشوفينى القومى جوهريا، أن ما اقترفته الدولة العثمانية، من مجازر إبادة مروعة ستسقط من المحاسبة والذاكرة التاريخية؛ لذلك يواصل ارتكاب المجازر فى سوريا والعراق وليبيا وغيرها، عن طريق تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها الإرهابية، من القاعدة إلى داعش. آخر الأوامر بالقتل الصادرة من أنقرة، تمثلت فى الانتهاك الفاضح مقررات مؤتمر برلين، بإرسال قوات غازية وأسلحة، مع جحافل من المقاتلين السوريين وغيرهم، إلى العاصمة الليبية، كى يعيثوا فيها فسادا ويريقوا دماء أهلها. أعلن أردوغان نفسه وصيا على ليبيا، وضمها إلى قائمة البلاد العربية التى تحوى قواعد عسكرية تركية، كالعراق وسوريا وقطر والصومال، فى احتلال سافر، ولم يفته أن يعدد حجم المكاسب التى يواصل حصدها من حكومة فايز السراج، فى رسالة طمأنة للشارع التركى القلق من العواقب.

يسعى أردوغان لدمج الإرهابيين فى هيكل ميليشيات قوات الوفاق، لتشكيل نخبة ميليشياوية عميلة تابعة لتركيا، تكون نواة بديلة للجيش الوطنى الليبي، للتحكم الكامل فى مسارات المستقبل السياسى للبلاد، لاسيما أن الأتراك منخرطون الآن فى السيطرة ليس فقط عسكريا وأمنيا، بل كذلك التعليم والصحة والبلدية، وفقا للاتفاق مع السراج. يراهن أردوغان فى ليبيا على الحضور الإخوانى فى تونس والجزائر والمغرب، لمحاصرة مصر واستهداف مصالحها فى المنطقة، وهذا ما يجعل الصدام بين القاهرة وأنقرة قائما على تناقضات استراتيجية.

تقوم (عقيدة أردوغان) الإخوانية العاطفية الاستراتيجية، ورؤيته للذات والعالم، على معادلة ديالكتيكية بين الميراثين الأتاتوركى والعثماني، ينجم عنه نوع من الطورانية الجديدة. تشعر تركيا عضو الناتو بفائض قوة، مقابل فراغ أو جوار متهالك، يرى أردوغان أن من حقه التدخل به، وأن على الجميع الاعتراف ببلاده قوة عظمى إقليمية والاعتراف بحدودها (العاطفية)، أى مناطق النفوذ والثروات والحدائق الخلفية، فى شرق المتوسط وبلاد العرب، إذ يمثل الواقع العربى المتردى فرصة ذهبية لذئب الأناضول. لكن مصر زلزلت أحلام أردوغان ووجهت ضربة مفزعة لخططه، فى 30 يونيو، فصار مهووسا بتطويق مصر وإشغالها بالمشكلات.

هذا التفسير الأردوغانى للعثمانية يتشابه مع رؤية ألكسندر دوغن الروسى صاحب نظرية (المنظور الأوراسي) التى تبناها الرئيس بوتين، ومفادها أن روسيا وارثة لإمبراطورية، ومن حقها السيطرة على الحوض الأوراسي، وفضاء جمهوريات الاتحاد السوفيتى سابقا، وأن هذا الدور ينبع من تاريخها الذى يعترف بحق الاختلاف والتعايش بين الأديان، لهذا يطالب بوتين الآن بنظرية (الجوار القريب)، أى الجوار الذى لا يمكن لأحد أن ينازع موسكو النفوذ أو التدخل فيه، وأن يعترف العالم بها لاعبا مؤثرا. لكن إذا كانت تلك رؤية أردوغان فماذا عن رؤية مصر أو بمعنى أدق (المنظور المصري) قياسا إلى المنظور الروسي؟

ظلت القاهرة دوما قلب الشرق الأوسط وأهم وحداته، وبمعايير القوة الشاملة هى تحوز الأكثر قياسا ببقية المنافسين، ويبدو أنه آن الآوان أن يدرك الجميع مصالح القاهرة وحقها فى (حدود عاطفية) أو (عمق استراتيجي) أو (جوار قريب) لا يجوز العبث به. ومن المؤكد أن القيادة المصرية فكرت فى ذلك وحسبت حسابه، لكن الظروف الداخلية والخارجية، بعد ثورتين، ربما شكلت قيودا على تجلى الأمر على الرقعة الجيواستراتيجية. دولة بقدر مصر وحجمها لا تملك ترف أن تكون تابعة لا سيدة، ومن ثم فإن ما يجرى فى ليبيا ستكون له نتائج بالغة الأهمية فى تقدير أوزان اللاعبين الكبار بالمنطقة، وفى ظنى أن الفرصة سانحة أمام القاهرة للتخلى قليلا عن حذرها، واتخاذ خطوات متدرجة محسوبة بعناية، إزاء تطورات الملف الليبي، استئنافا لدورها القيادى المعهود، فى صياغة السياسات الإقليمية والدولية، حربا وسلاما، وذلك تجنبا لأن نصحو بعد خراب بصرى وعودة السلطان سليم الأول، مصر تستطيع؟. نعم تستطيع!.

[email protected]
لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن

رابط دائم: