هناك كُتب لا يمل البعض, ومنهم كاتب هذه السطور, من الرجوع إليها وقراءة صفحاتها بين حين وآخر، منها عندى كتب محيى الدين ابن عربى وجلال الدين الرومي، وفى الدرجة نفسها الكتب المتصلة بتاريخ أوروبا الوسيط والحديث وتاريخ مصر، وبعض كتب تاريخ أوروبا تكاد صياغتها ترقى إلى النظم الشعرى المنثور، لأن كاتبها هو هربرت فيشر ومترجمها الأستاذان المرموقان أحمد نجيب هاشم ووديع الضبع، اللذان أضفيا على النص المعرّب بصمة عميقة من جمال الصياغة ومتانة البناء وفيض الشرح فى الهوامش, إذا احتاج المتن لتعليق أو تفسير, وفى السياق نفسه هناك كتب جرانت وتمبرلى فى تاريخ أوروبا الحديث، التى ترجم واحدًا منها الأستاذ بهاء فهمي، وراجعه أستاذنا الفذ، مؤسس مدرسة التاريخ الحديث والمعاصر فى جامعة عين شمس، الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، وقد شاءت الصدفة أن أعود للكتاب عندما حلّت الذكرى التاسعة لثورة يناير 2011، وكان أن تملكتنى الدهشة التى أظن أنها ستتملك البعض ممن يفكرون فى أمر ما يسمى القوانين التاريخية.
ففى الفصل الرابع المعنون: ارتقاء نابليون إلى السلطة، يتحدث المؤلفان عن أن صعوده, أى نابليون: فيه ما هو أكثر بكثير من مجرد قصة رجل قدير يفوز لنفسه بمكانة سامية فى العالم، فإن هذا الحادث إنما يعكس أحد القوانين العامة التى نستطيع أن نقتفى آثارها على سطح التاريخ، فبوسعنا أن نشاهد دائمًا كيف تنتهى حقب الاضطراب والثورة بإقامة حكم قوي، غالبًا ما يكون حكمًا فرديًا، والمثلان اللذان يرد ذكرهما عادة, كلما تناول المؤرخون سيرة نابليون, هما«إنشاء الإمبراطورية الرومانية على يد يوليوس قيصر بعد قرن من الاضطرابات والثورة فى روما، والثانى قيام حكم أوليفر كرومويل الفردى على إثر ثورة البيورتان».
ولكن هذين المثلين إنما هما أبرز الأمثلة فقط، فنحن, والكلام مازال لمؤلفى كتاب أوروبا فى القرنين التاسع عشر والعشرين أ. ج جرانت وهارولد تمبرلي, نستطيع أن نجد شيئًا من هذا القبيل فى مجيء ملكية التيودور بعد حروب الوردتين، وفى انتهاء حرب المائة عام فى فرنسا بما جلبته من اضطرابات وآلام بتركز السلطة فى يد الملكية على عهد شارل السابع ولويس الحادى عشر، وكذلك فى انتشار الحكم الفردى بصورة عامة جدًا عقب حرب الثلاثين عامًا فى ألمانيا.
ومثل هذا التطور الذى يتخذ شكل الظاهرة العامة لا بد أن تكون له أسباب مشتركة، وهى أسباب ليس من العسير علينا أن نتبينها، فإن المجتمعات التى تمر باضطرابات كبرى, لأى سبب من الأسباب, تشعر بالحاجة إلى قيام نظام مستتب، باعتباره أول مستلزمات حياتها الاجتماعية، فإذا عجزت عن بلوغ مرادها بالوسائل الدستورية وعن طريق الاتفاق المتبادل وممارسة الحرية رضيت بالحصول عليه على يد جندى قوي، وبوسعنا أن نشاهد أيضًا كيف ينتقل البت فى مصائر الأمور فى مثل هذه الثورة التى كنا نتناولها بالبحث، وفى الفترات التى يسودها الاضطراب كتلك التى أشرنا إليها، إلى أولئك الذين يملكون زمام أكبر قدر من القوة بمعناها المادي، انتهى الاقتباس من كتاب جرانت وتمبرلى اللذين مضيا فى تطبيق هذا القانون التاريخى العام بمزيد من التفاصيل على فرنسا، وربما أعود للكتابة فى الموضوع وأذكر هذه التكملة عن فرنسا.
وفى السياق نفسه، لعلى لا أتجاوز إذا أضفت مثالين آخرين ينطبق عليهما ذلك القانون التاريخى العام، أولهما عربي- إسلامي، وهو أنه بعد الأحداث الدامية للفتنة الكبرى وتحارب كبار الصحابة ووصول الأمر لضرب الكعبة وللفوضى على النحو الذى يعلمه كل مطلع على تاريخ تلك الحقبة، كانت النجاة على يد حكم مركزى بقيادة معاوية، الذى قاد الجيوش واستخدم سبيلا غير الشورى وأخذ البيعة لابنه بالسيف والمال وأسس لحكم وراثى استمر حتى سقوط نظام الخلافة كليًا.. والثانى هو ما جرى فى روسيا بعد ثورتى 1905 و1917 حيث كان الحكم الصارم للبلشفيك ولشخصية مثل جوزيف ستالين، وتم بناء الدولة وترسيخ أركانها بطريقة تحفل كتب التاريخ بوصفها.
إنه قانون تاريخى عام، لا ينتقص من حتميته تغنى المثقفين بالحرية والديمقراطية وهتافات الجموع، بمن فيهم الفوضويون والمتمولون.
هكذا كان تاريخ الشعوب، وهكذا هى قوانين حركته، فهل من قارئ لها ومتدبر؟
لمزيد من مقالات أحمد الجمال رابط دائم: