عندما يطلع القارئ الكريم على هذه المقالة تكون تفاصيل خطة السلام قد أُعلنت بعد أيام حفلت بتسريبات من مصادر عديدة عن تفاصيلها، وقد غامرت بالكتابة فى الموضوع قبل إعلان هذه التفاصيل بأربع وعشرين ساعة على أساس أن المغامرة لا تنطوى على مخاطر تُذكر بالنظر إلى أن أسس الخطة قد بدأت تنجلى منذ أكثر من عامين باعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومن ثم استبعاد المدينة المقدسة من المسار التفاوضي، ثم توالى الإفصاح عن مقومات الخطة من تضييق للخناق على الفلسطينيين فى مقابل حديث عن إغراءات اقتصادية هائلة لهم بموجب خطة أظهرت ورشة المنامة مدى تواضعها، ناهيك بعدم تأكد مصادر تمويلها واستحالة حل صراع معقد كالصراع الفلسطيني-الإسرائيلى بآليات اقتصادية فقط، إلى التباس كامل بشأن حل الدولتين، إلى اعتراف بشرعية الاستيطان فضلاً عن التغييب الكامل لقضية اللاجئين، وهكذا فُرغَت القضية الفلسطينية من مضمونها، وفى هذا السياق عجبت لمن تحدثوا فى الأيام التى سبقت إعلان الخطة عن تسريبات التفاصيل ونسبتها حيناً إلى مصادر أمريكية وحيناً آخر إلى مصادر إسرائيلية، بينما لا تهم هذه التفاصيل بأى حال طالما أن الأساس هو تصفية القضية أصلاً، ويضحك المرء الآن عندما يقرأ التفاصيل المملة لاتفاقية أوسلو فى جانبها الاقتصادى على سبيل المثال وكيف ضاعت بسبب الأساس المعوج الذى بُنيت عليه الاتفاقية.
وقد تبسمت كثيراً كذلك عندما ظن البعض فى مرحلة التسريبات الأخيرة أنه أتى بجديد بالحديث عن وجود فترة انتقالية مدتها أربع سنوات لتطبيق خطة ترامب، وتذكرت موقع الفترات الانتقالية فى نموذج تسوية الصراع العربي- الإسرائيلى الذى حقق زخماً واضحاً باتفاقيتى كامب ديفيد1978، حيث نصت الاتفاقية الثانية منهما الخاصة بإطار السلام فى الشرق الأوسط على فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، ثم نصت اتفاقية أوسلو1993 على فترة انتقالية للمدة نفسها وكذلك فعلت خريطة طريق جورج بوش الابن في2003 التى تخيلت قيام الدولة الفلسطينية في2005، ولما تعثرت الخريطة حاول مؤتمر أنابوليس فى نوفمبر2007 إنقاذها بمد الفترة إلى نهاية ولاية بوش فى آخر2008 دون جدوي، وهكذا فإن تكنيك الفترات الانتقالية ليس جديداً على نموذج التسوية وكان دائماً محاولة لم تنجح أبداً لترحيل المشكلات المستعصية للتسوية عبر الزمن بأمل حلها، وهو أمل ثبتت استحالته بسبب عوار الرؤى التى بُنيت عليها هذه المحاولات كافة، فلم تتحقق التسوية في1983 كما تخيلت اتفاقية كامب ديفيد ولا في1998، كما تخيلت أوسلو ولا في2005، كما تصورت خريطة طريق بوش، الابن، ولا في2008 كما تصور مؤتمر أنابوليس مع فارق شديد الأهمية فى غير مصلحة خطة ترامب للسلام وهو أن المشكلات المعقدة فى جميع المحاولات السابقة على خطة ترامب رُحلَت إلى مسار تفاوضى مفتوح بينما تبدأ المرحلة الانتقالية المفترضة لخطته بعد أن حُسِمَت أخطر هذه القضايا (القدس - المستوطنات - اللاجئين) لمصلحة إسرائيل، ويعتقد ترامب أن الزمن كفيل بقبول الفلسطينيين هذه الخطة الجيدة وهو ما يؤكد الجهل بتعقيدات الصراع، والأهم من ذلك أن الفلسطينيين لم يُستشاروا فى أى مرحلة من مراحل إعداد الطبخة ولا حتى أكثر فصائلهم اعتدالاً وهى السلطة الفلسطينية، فكيف يتصور واضعو الخطة أن يتم تطبيقها دون موافقة الفلسطينيين الذين لم يصدر صوت واحد عنهم يؤيدها؟ وما هو يا تُرى تصور واضعى الخطة لكيفية تطبيقها فى غزة التى تسيطر عليها حماس التى لا تعترف بها الولايات المتحدة أصلاً؟ وترتبط بهذا أوهام التمويل والتأييد السياسى العربي، ويُلاحظ أن دولة عربية واحدة لم تتعهد بالمشاركة فى تمويل الخطة، مع العلم بأن الولايات المتحدة فى ظل رئاسة ترامب لا يمكن أن تمولها وهو الذى يدعو كل الشركاء إلى دفع تكلفة ما يحصلون عليه مما يعتبره مزايا من الولايات المتحدة، كذلك فعلى الرغم من مؤشرات متكررة لتقارب أو تطبيع بين دول عربية وإسرائيل فإن أياً منها لم يعلن بأى طريقة موافقته على الخطة، وعلى الرغم من أن بعض التقارير أشار إلى تغير محتمل فى موقف الأردن فإن المسألة ليست بهذه السهولة فى ظل ثوابت السياسة الأردنية ومخاطر الخطة على أمن الأردن واتجاهات الرأى العام فيه.
لن تمر الخطة إذن، لكن المشكلة أنه وإن كانت عوامل بنيوية كامنة فى الخطة تحكم عليها مقدماً بالفشل فإنه لا توجد مقومات موقف فلسطينى وعربى تسمح بتقديم بديل، ومن ثم فإن إفشال الخطة فى حد ذاته لا يمثل نصراً وإنما لابد من فعل فلسطينى أساساً وعربى مساعد يكفل ضمان عدم حدوث مزيد من التدهور فى الوضع الفلسطيني، ويرجع هذا إلى حالة الانقسام التى يستعصى استمرارها على الفهم بمعنى أن أسبابها مفهومة بسبب الخلاف الأيديولوجى بين الفصيلين الرئيسيين فى حركة التحرر الفلسطينية (فتح وحماس) والصدام الدموى الذى وقع بينهما وهي, أى حالة الانقسام, ظاهرة لم تنج منها كل حركات التحرر الوطنى تقريباً، لكن الغريب أن تستفحل إلى هذا الحد فى حالة فلسطين التى تواجه خطراً وجودياً، والأدهى والأمر أن يستمر وجودها رغم الهجمة الأمريكية الصهيونية الشرسة التى قامت بخطوات فعلية نحو تصفية القضية الفلسطينية على نحو ما رأينا، وهو ما يثير أسئلة حقيقية حول جدارة النخبة السياسية على جانبى الخلاف، كذلك فإن تداعيات الغزو الأمريكى للعراق وما سُمى الربيع العربى قد أوجدت هواجس داخلية جديدة عديدة للدول العربية حصرت تأييدها للقضية الفلسطينية فى المستوى اللفظى على أحسن الفروض، وبالتالى فإن الموقف الواجب من خطة ترامب للسلام لا يكون بالاكتفاء برفضها أو التنديد بها وإنما بعلاج العوار فى الموقفين الفلسطينى والعربى، وهى مهمة عسيرة لكنها ليست مستحيلة.
لمزيد من مقالات د.أحمد يوسف أحمد رابط دائم: