وطنى لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه، نازعتنى إليه فى الخُلدِ نَفسي.. نعمةٌ عظيمة لا يُحسنُ الناسُ شكرها، هى نعمة الوطن، الأمن،الأمان، الاطمئنان، الاستقرار.. حقا الوطن الآمن، منحةٌ ربانيةٌ يعلمُ قدرَها تماما، وبكل ألمٍ وحزن، مَنْ ضاعت أوطانهم، فتعثرت حياتُهم، وتوقفت آمالُهم، اشتاقوا لأرضهم، لذويهم، لبيوتهم، لقراهم التى كانت مطمئنة، حُلُمُهم ليلا ونهارا، كيف يعود الماضى الجميل؟ ومتي؟ وسؤالهم الدائم، من هؤلاءِ المجرمون الذين أفقدونا هذه المتعةَ الرائعة، وهذا الشرفَ العظيم؟ وكانوا سببا فى خرابٍ بعد رخاء، وعسرٍ بعد يسر، وذلٍ بعد عز؟ فقدنا بسببهم الأحبة، ولسانُ حالهم، نحنُ نعيشُ مواطنين من الدرجات الأدني، فى بلادٍ أخري، تحنو علينا مرة، وتقسو مراتٍ، تسمع آذانُهم من يقول: مَنْ أتى لبلادنا بهؤلاء؟ ولماذا نتحملُهم؟ ومتى يعودون؟ كلماتٌ، ليست كالكلمات، إنها سهامٌ تصيبُ قلوبَ الأحرار، لا يستطيعون دفعَها، ولا يملكون قوةَ مقاومتها، وما تُحدثُه الكلمة، تُحدثُه النظرة، نظرةُ المستعلى القوي، على المسكين الضعيف.
وماذا بقى للإنسان إذن ؟ إن علينا جميعا نحن أبناءَ مصر، أن نتكاتف لنحميَ وطننا، ونضحيَ من أجله بكل شيء، فنحن بدونه لا شيء، نختلفُ كيف شئنا، ولكن ننبذُ الخلاف، ولا نتنازعُ، فنفشلَ، وتذهب ريحُنا.
يبالغُ كثيرٌ من الناس فى التعصب لآرائهم، ويظنون أنهم على الحق المطلق دائما، وغيرهم على الباطل، وأنهم وحدَهم، دونَ غيرِهم، الذين يملكون الحكمةَ وفصلَ الخطاب، ومن هنا ينشأُ التطرف، ومن هنا يتصارعُ أبناءُ الوطن الواحد. إن وضوحَ الفكرة لدى البعض، لا يعنى أن الآخرين ينظرون إليها بنفس الوضوح، فربما نراها من خلال الجوانب المضيئة عندنا، بينما لا يتوافر ذلك عند الآخرين، فلماذا لانلتمسُ لغيرنا الأعذار؟ ولماذا لا نرسخُ للحكمة الخالدة: رأيى صوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأى معارضى خطأٌ يحتملُ الصواب، لماذا لا يكونُ خلافُنا، رحمة بيننا، وبحثا عن أفضل الحلول؟ لماذا أضحى الخلافُ مُفسدا لكل قضايا الود...لقد طُفْتُ العالمَ كلَه، شرقا وغربا، فلم أجد لمصرَ مثيلا فى عظمتها وشموخها وتاريخها ومكانتها، ليست عصبية وطنية، لكنها حقيقةٌ قائمة على الواقع والسند والمعلومة.. لقد ذُكرت مصرُنا، عشرات المرات، تصريحا وتلميحا وتعريضا فى القرآن الكريم، وكُتُبِ السماء، واقترن اسمها بالأمان (ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، وشَهِدَ بعلو قدرها، نبيُ الرحمة محمد، صلى الله عليه وسلم، حيثُ قال: إذا فتحَ اللهُ عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض، فقال له أبوبكر، رضى الله عنه: ولِم يارسولَ الله، قال لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة. وفى خطط السيوطي، قال : فى بعض الكتب الإلهية، مصرُ خزائنُ الأرض كلها، فمن أرادها بسوءٍ قصمه الله. كما قالوا فى أهل مصر، إنهم قتلةُ الظلمة، وما أتى عليهم قادمٌ بخيرٍ إلا التقموه، كما تلتقمُ الأمُ رضيعَها، وما أتى عليهم قادم بشرٍ إلا أكلوه كما تأكلُ النارُ أجفَ الحطب، وهم أهلُ قوة وصبر وجلدة وحمل، ولايغرنك صبرهم، ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجلٍ، ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجلٍ، ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه، فاتقِ غضبَهم، ولا تشعل نارا لا يطفئُها إلا خالقهم، فانتصر بهم، فهم خير أجناد الارض، واتقِ فيهم ثلاثا: نساءهم، فلا تقر بهن بسوءٍ، وإلا أكلوك كما تأكل الأسودُ فرائسَها، أرضهم، وإلا حاربتك صخورُ جبالهم، دينهم، وإلا أحرقوا عليك دنياك.. وأنشدوا فيها شعرا : مصر يا أمه.. ياسفينة، مهما كان البحر عاتي، فلاحينك ملاحينك، يزعقوا للريح تواتي..
وقالوا : على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء، أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء.. هى مصرُ يا سادة، مسرى الأنبياء، ووطنُ الشهداء، أرضُ الحضارة الضاربة فى قلب التاريخ، حافظوا عليها، ولا تنالوا من استقرارها، ضعوها فى أعينكم، ولا تجعلوها آخرَ ما يشغلُكم، هذه أمانةٌ فى كل الأعناق، يحاسبُنا عليها التاريخ، وسيحاسبُنا عليها المولى جلت قدرتُه..
لمزيد من مقالات محمد فريد خميس رابط دائم: