لا يوجد فى مصر شيء أغلى من الإنسان.. إن البشر كانوا دائماً ثروة مصر الحقيقية انه التاريخ والحضارة والإبداع.. هناك شعوب كانت تفخر بثرواتها الطبيعية وأموالها وأراضيها ولكن الإنسان المصرى تفوق على ذلك كله.. إن شواهد التاريخ وما أكثرها دائما تتوقف عند مصر الإنسان هذا المبدع الخلاق الذى قدم للإنسانية أول سطور حضارتها فكان المؤمن قبل أن تهبط الأديان وكان الموحد قبل أن تنزل الرسالات وكان المبدع وهو يتحدى الزمن والعالم كل العالم يقف عند منجزاته فى كل العصور.. كنا دائما نفخر بان الإنسان المصرى شيء فريد فى قدراته ومواهبه وصبره ودوره فى تاريخ الإنسانية..
> لا أدرى أمام أى الأشياء نتوقف هل أمام المصرى الذى علم الكون الزراعة أم هو هذا الكائن الذى روض النهر وعاش على شطآنه موحداً أم هو الفنان الذى مازالت آثاره تحكى للعالم قصص الحضارات التى عبرت على شطآن نيله الخالد.. هل هو الكرنك أم الأهرامات أم العلوم والثقافة والإبداع هل هى الأرض الطيبة التى عاش عليها الفلاح المصرى وهو ينتظر عطاء السماء فى فيضان نيله وثمار أرضه وهذا الزمن الممتد عبر القرون يحكى انجازات هذا الإنسان الذى علم الدنيا كل إبداع جميل.. انه المصرى هذا الكائن الراقى والمتحضر وصاحب الدور والرسالة..
> لو أننى حاولت أن اكتب عن الإنسان المصرى فإننى احتاج وقتا وزمانا لان العصور تداخلت والشواهد مازالت باقية والأدوار جزء من حركة التاريخ لن يستطيع أحد أن يسلب من المصريين مكانتهم فى تاريخ الحضارات.. أقول هذا وأنا اشعر بحزن شديد وأسى على ما وصلت إليه أحوالنا فى كل شيء ابتداء بالأرض التى تنكرنا لها فأجدبت أو بالعقل الذى استسلم للخرافات والجهالة وأصبحنا نقاوم كل مظاهر التخلف فى حشود مارقة اختارت الإرهاب بديلا للعمل والإنتاج والإبداع وحق الإنسان فى حياة كريمة..أم فى الاخلاق هذا التاج الذى زين سلوكيات المصريين فى كل العصور..
> إن فى مصر الآن أكثر من 60 مليون شاب وهم بكل المقاييس الاقتصادية والحضارية يمثلون اكبر ثروة فى هذا الوطن.. إن كل واحد منهم مشروع بناء امة ورقى وطن.. وكل واحد منهم يمكن أن يكون شعلة فى الإبداع والتميز.. أن هذه الملايين من الشباب ضائعة بين فكر مشوش وأحلام مهزومة ولحظات يغيب فيها العقل أمام المخدرات..أن هذه الملايين من شباب مصر الذين يمثلون اغلى ثرواتها يقفون أمام شواهد التاريخ ولا تستطيع أن تلوم أحداً منهم حين يغيب الانتماء وتختفى الجدية وتجد أن أقصى أحلامهم أن يهاجروا إلى أوطان أخرى بعد أن ضاق الوطن بأحلامهم.. فى كل بيت فى مصر الآن شاب يبحث عن فرصة يسافر من خلالها إلى وطن أخر.. انه لا يكره الوطن ولكنه لا يجد لنفسه مكاناً فيه..
> فى زمان مضى كنت تجد الفلاح المصرى وهو يصلى الفجر ثم ينطلق إلى أرضه يزرع ويحصد ويستقبل الحياة مع ساعات النهار وقد أنجز أشياء كثيرة انه ينتج الطعام ويذهب إلى الأسواق يبيع ما أنتج.. وكان يعرف بدقة مواسم الزراعة والحصاد قبل أن تهبط على رأسه مسلسلات الفضائيات وغيبوبة المحمول ومهرجانات الفن الهابط.. انه الآن يسهر حتى الصباح أمام تضليل الشاشات وأكاذيب النفاق.. وحين يصحو فى اليوم التالى ينتظر رغيف البندر ويكمل اليوم مع مسلسلات الظهيرة ولاشيء بعد ذلك.. هل كان أحد يتصور أن فى مصر أكثر من خمسة ألاف مصنع للقطاع الخاص توقفت عن العمل والإنتاج عشر سنوات كاملة وان الحكومة أخيراً اتفقت مع البنك المركزى لإنقاذ هذه المصانع.. كم ضاع من الأموال أمام توقف هذه المصانع وكم عدد العاملين فيها وكم عدد الأسر التى كانت تعيش عليها، إنهم بالملايين.. أن العامل المصرى كان فخراً للصناعة المصرية وكان مطلوباً فى كل الدول العربية وكان قادراً على الإبداع والابتكار والتميز ولكن أين تجد هذا العامل الذى كان يتمتع بسمعة طيبة فى كل مكان يذهب إليه.. إن طوابير البطالة جعلت هذا العامل المبدع يجلس نصف يومه على المقهى والنصف الآخر أمام المسلسلات وكانت النتيجة أن الحكومة تشكو لأن العامل لا ينتج وهو يشكو لأنه بلا عمل..
> هل هذا هو نفس العامل المصرى الذى شيد المعابد وأقام السدود وروض النهر المكابر وأين هذه النماذج الآن..فى أحيان كثيرة نشاهد قصص نجاح سريعة ونتساءل لماذا تتوقف عند حالات أو مشروعات أو انجازات سريعة.. لقد شاهدناً ذلك فى حفر قناة السويس فى اقل من عام وفى مشروعات البناء والمنشآت العقارية والمدن الجديدة فلماذا لا تكون هذه الانجازات مشروع وطن وليست مجرد نجاحات لهيئات أو مؤسسات أو أفراد.. هل يعقل أننا بعد مائة عام مازلنا نتحدث عن الأمية.. وان الحكومات المتعاقبة قد فشلت فى القضاء على هذه الظاهرة المخجلة.. هل يعقل أن إنتاج مصر الزراعى قد تراجع بكل هذه الأرقام وان الدولة تعتمد على الاستيراد فى معظم احتياجاتناً من الطعام.. إن هذه الظواهر التى تعكس خللا فى الإنتاج والعمل والإدارة تؤكد أن الإنسان المصرى ليس هو صاحب الأدوار فى تاريخ الشعوب.. نحن الآن من أكثر شعوب العالم فى أشياء أخرى كثيرة ابتداء باستخدام المحمول وانتهاء بالأمية مروراً على المخدرات والسجائر وساعات العمل..
> إن هذا الإنسان الذى صنع كل هذا التاريخ يعانى الآن قضايا أساسية فى حياته وسلوكه والواقع الذى يعيش فيه أن أخلاق المصريين لم تعد كما كانت، ومن يرصد لغة الشارع وأسلوب الحياة والحوار ومستوى التعليم والإدارة ودائرة المناصب سوف يكتشف أن هناك مظاهر كثيرة للفساد ابتداء بالاعتداء على المال العام وانتهاء بالرشاوى والسرقات وجرائم التحرش والقتل والاغتصاب وكلها تؤكد أن هناك تحولات جذرية فى الشخصية المصرية وان هناك من الأسباب ما وصل بنا إلى هذه الظواهر الخطيرة..
> إن الإبداع المصرى الذى نطلق عليه القوى الناعمة لم يعد كما كان وقد شهد فى العصور الحديثة وليس فى أعماق التاريخ ظواهر إبداعية فريدة ولكن المؤكد أن العقل المصرى لم يعد فى خصوبة عطائه وان هناك عواصف خارجية وداخلية كثيرة أطاحت بمواكب التنوير والإبداع ويكفى أننا وحتى الآن لم نصل إلى الصيغة المناسبة فى قضية إصلاح الخطاب الدينى فقد دخلت فى سراديب كثيرة بين المؤيدين والمعارضين واختلفناً كثيراً حول قضية الحداثة وعلى أى الثوابت تقوم ثم اختلفناً أكثر فى قضية الحريات ابتداء بالحرية السياسية وانتهاء بحرية الفكر والحوار واختلفناً حول قضايا المرأة ما بين الحجاب و اللاحجاب ومكانة نصف المجتمع فى قضايا الوطن.. ثم اختلفناً حول قضايانا الاقتصادية ابتداء بالزيادة السكانية وانتهاء بالاقتصاد الحر أو الموجه رغم أننا أخطأنا فى الحالتين لأنها مجرد أفكار على ورق..
> لقد اختلفت الآراء والمواقف حول قضية العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص واحتكار المناصب لفئات معينة وتوريثها فى أحيان كثيرة وبعد أن صعدت الطبقات الفقيرة فى فترة من الزمن عادت مرة أخرى إلى مواقعها القديمة أمام غياب ثوابت كثيرة ينبغى أن تحكم مسيرة الحياة والبشر.. لم نعد نفتح الأبواب أمام فرص متكافئة للجميع وأصبح التفوق أو التميز مجرد شهادات أو أفكار على ورق ولهذا انسحبت فئات كثيرة بعد أن شعرت بأنها خارج السياق وان المجتمع تخلى عنها أمام ضغوط اجتماعية واقتصادية وإنسانية لم يعد للتفوق مكان فيها..
> لا شك أن إهدار قيمة الفكر والثقافة والإبداع فى حياة المصريين كان سبباً فى تغيير الكثير من الثوابت فلم يعد المثقف يحتل مكانته القديمة أمام المجتمع..وكما سقط المثقف من عرشه اجتماعيا واقتصاديا وحتى فكريا سقط الفلاح من منظومته التاريخية وتخلى العامل عن موقعه فى مسيرة العمل والإنتاج وهرب الشاب من أغانى الوطنية والانتماء وأصبحت الهجرة حلماً يطارد الجميع.. لقد شاركت أطراف كثيرة فى تشويه صورة الإنسان المصرى المبدع والمتميز والعقلانى بفكره المستنير..حين أهملنا قضايا التعليم والأمية وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد انقسم المجتمع على نفسه فأصبح التعليم وجبة مختلفة بل ومتعارضة بين أبناء الأسرة الواحدة هذا انجليزى وهذا فرنسى وهذا روسى وأصبحت اللغة العربية ضيفاً غريباً وسط كل هؤلاء رغم أن اللهجة المصرية كانت توحد الملايين من الدول العربية الشقيقة..وكان من الصعب أن تقضى الحكومات على هذا الشبح الغريب الذى يسمى الأمية حتى تصبح نسبة الذين لا يقرأون ولا يكتبون من أعلى النسب فى العالم حيث يصل عددهم إلى أكثر من 27 مليون مصرى كان يمكن أن يكون من بينهم العلماء والمبدعون والمفكرون ولا نطلق على معظمهم أطفال الشوارع..إن تراجع الإنسان المصرى قضية إهمال وفشل عبر حكومات متعددة ولكى نعيد له الدور والمكانة علينا أن نراجع أسباب كل هذه الظواهر لأننا ندرك الأسباب التى جعلته يوماً فى المقدمة ولا نخجل من الأسباب التى وضعته فى مكانة لا تليق به وفى مقدمة هذه الأسباب أن نعيد لمصر وجهها الحضارى والثقافى بانتشال عقول أجيالها من سراديب الخرافات والجهالة والتخلف وان يعود العقل المصرى إلى مقدمة الصفوف ممثلا فى كل طوائف المجتمع لان مصر قامت دائما على مشروع حضارى وإنسانى شارك فيه الجميع..كان العامل والفلاح والمفكر والطبيب والمبدع والمثقف هم قاطرة الإنسان المصرى نحو المستقبل..وكان جيش مصر هو الحارس لكل هذه الأدوار إن التراجع ظاهرة واضحة وملموسة ولا أحد يكابر فيها ولكن الحلول أيضا واضحة لمن أراد أن يعيد مصر إلى مكانتها فالطريق واضح لعودة مصر الإنسان لأنه أغلى ثروات مصر..
ويبقى الشعر
وَكانتْ بيْننا ليـْلـةْ
نثرْنا الحبَّ فوقَ ربـُوعهَا العَذراءِ فأنتفضتْ
وصَارَ الكونُ بستـَاناً
وفوقَ تلالها الخضْراءِ
كم سكرت حَنـَايانـَا
فلم نعرفْ لنا إسمًا
ولا وَطنـًا وعـُنوانـَا
وكانتْ بيننَا ليـْلــْة
سَبْحتُ العُمرَ بينَ مياههَا الزرقـَاءِ
ثم َّرَجعتُ ظمآنا
وكنتُ أراكِ يا قدرِي
مَلاكاً ضلَ مَوطنَه
وعاشَ الحبَّ انسَانـَا
وكنتُ الرَّاهبَ المسجُونَ فى عَيْنيكِ
عاشَ الحبَّ مَعصية ً
وذاقَ الشوقَ غـُفرانَ
وكنتُ امُوتُ فى عينيك
ثمَّ اعُود يَبْعثــُني
لـَهيبُ العطرِ بُركانـَا
وكانتْ بيننَا ليلةْ
وَكانَ المْوجُ فِى صَمْتٍ يُبعثرُنـَا
عليَ الآفاق ِشُطآنــَا
ووَجهُ الليل ِ
فوقَ الغيمةِ البيْضاءِ يحمِلنا
فنبِْنى مِنْ تلال ِالضّوءِ أكـْوانـَا
وكانتْ فرحة ُالايامِ
فى عينيك تنثــُرنِي
على الطرقاتِ الحانـَا
وَفوقَ ضِفافكِ الخضْراءِ
نامَ الدهرُ نشوَانـَا
وأَقْسَمَ بعد طولِ الصَّدَّ
انْ يطوِى صَحائفنَا وَيَنسانـَا
وكانَ العمرُ اغنية ً
ولحـْنـًا رائع َالنغمَاتِ
اطرَبنـَا واشجَانـَا
وكانتْ بيـْننا ليلة
جلستُ أُراقـِبُ اللحظَاتِ
فِى صمت ٍتودّعُنـَا
ويجْرى دمعُها المصْلوبُ
فوقَ العْين الوانَا
وكانتْ رِعشة ُالقنديلِ
في حـُزن ٍتـُراقبـُنا
وتـُخفِى الدمْعَ احيَانـَا
وكانَ الليلُ كالقنَّاص يَرصدُنَا
ويسْخرُ منْ حكايانـَا
و روّعنَا قـِطارُ الفجـْر
حينَ اطلَّ خلفَ الافـْق سكـْرانَا
تـَرنحَ فى مَضاجعِنا
فايقظنا وارّقنـَا ونادانـَا
وقدّمنا سنين العمرِ قـُربـَانا
وفاضَ الدَمعُ
فى اعمَاقـِنا خوْفــًا واحزَانا
ولمْ تشفعْ امام الدهِر شكــْوانا
تَعانقنا وصوتُ الرّيح فى فزعٍ يُزلزِلـنا
ويُلقى فى رماد الضوءِ
يا عمْري بقايانـَا
وسَافرنَا
وظلتْ بيننَا ذكـْري
نراهـَا نجْمة ًبيضاء
تخـُبو حينَ نذكُرهَا
وتهْربُ حينَ تلقانـَا
تطُوف العمرَ فى خَجلٍ
وتحْكى كلَّ ما كانـَا
وكانتْ بيننَا ليلهْ
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: