رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تحرير العقل

فى شهر يناير سنة 1953 خصصت مجلة: «الكتاب» التى كانت تُصدرها دار المعارف عددًا من أعدادها، وكان عددًا خاصًّا بتكريم ثورة يوليو 1952، وقد أرجأت المجلة احتفالها بالثورة حتى تكون الثورة قد تأسست، وثبتت أركانها وقواعدها، وظهر المخلصون من أنصارها فى مقابل المُرجفين من أعدائها. وشارك فى هذا العدد الخاص عن ثورة يوليو 1952 رهط من كبار المثقفين وكتّاب العصر الذين اعتادوا الكتابة لمجلة: «الكتاب» كان على رأسهم: طه حسين، وعباس محمود العقاد، وبنت الشاطئ، ومحمد عبدالغنى حسن وغيرهم من كبار الكتّاب فى مجالات الأدب والتاريخ والإسلاميات.

....................................

أما سيد قطب فقد كتب مقالًا بعنوان: «محطم الطواغيت»، وهو مقال عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يقرأ المقال يجد فيه طابعًا كنائيًّا، وكأن المقال كله نوع من الإشارة الرمزية للثوار تقول: إنكم إذا أردتم أن تكونوا ثوارًا حقيقيين فاسترجعوا سيرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم وكونوا مثله محطمين للطواغيت التى تُعادى الإسلام، وتغطى على حضوره ووجوده. وكانت هذه لغة طبيعية وإشارات رمزية بين الثوار والإخوان المسلمين من ناحية، ومن ثم كان مقال سيد قطب بمثابة تحفيز لحلفاء الإخوان المسلمين من الثوار على أن يحطِّموا ما رآه الإخوان أعداء وطواغيت حان قطافها. والحق أن اللهجة الضمنية للمقال كانت تشى بنوعٍ من الرغبة فى الوصاية على الضباط الأحرار، وتحويل التحالف مع الإخوان المسلمين إلى نوعٍ من التبعية الكاملة للإخوان. وهو الأمر الذى أدى إلى الصدام بين الطرفين المتحالفينِ، ومن ثم انقلاب الثوار الشباب على الإخوان المسلمين، وإلحاق تنظيمهم بالأحزاب التى قاموا بإلغائها، فضلًا عن اعتقال قياداتها.

وكانت أزمة الديمقراطية (مارس 1954) قد بدأت تلوح نُذرها، وتومئ إلى حركة تصاعدها إلى أن تصل إلى الذروة التى لم تكن قد جاءت بعد، حين صدر العدد الأخير من مجلة: «الكتاب» فى يوليو1953، أما فى يناير من العام نفسه (1953) فقد كان الأمر يُنذر بأحداث قادمة لكنها لم تكن قد وصلت إالى الذروة بعد. أما مجلة: «الكتاب» التى كان يرأس تحريرها الأستاذ عادل الغضبان، فكانت صادرة عن حُسن نية وفرحٍ ممزوجٍ بالأمل لِما يمكن أن تحققه هذه الثورة. وهذا هو ما نجده فى مقال طه حسين الذى كان متحمسًا لما حدث فى يوليو 1952. فهو دون غيره الذى أطلق على ما حدث فى 23 يوليو 1952 لقب «ثورة»، وهى التسمية التى غلبت وشاعت وغطَّت على التسميات التى كانت قائمة من قبيل: «الحركة المُباركة»، و»انتفاضة الجيش»، و»انقلاب». هكذا جبَّت تسمية طه حسين «الثورة» كل التسميات، وقد كان لها أساس من الصحة بالنظر إلى الأهداف المعلنة للثورة، وإلى ما حققته فى سَنتها الأولى، فقد تحولت من انقلابٍ لا يفارق مستوى بعينه من التأثير، إلى ثورةٍ هى نوع من التغيير الجذرى لكل قطاعات المجتمع وطبقاته على السواء، ليس بالمعنى السياسى وحده، وإنما بالمعنى الاجتماعى والاقتصادى والثقافى ونظام الحكم على السواء.

وقد كان طه حسين مدركًا أن البعد الاقتصادى كان هو البعد الأول فى معنى الثورة من حيث ارتباطه بالعدل، ولذلك يبدأ طه حسين مقاله فى هذا العدد الخاص من مجلة الكتاب، بالحديث عن رجال المال والأعمال الذين يتحدثون فيما بينهم عما يمكن أن يكون للثورة المصرية من أثرٍ على مالهم وأعمالهم، وعما يرجون وما يخافون من توابع هذه الثورة. ويمضى طه حسين قائلًا أنه ربما كان خوفهم فى أول الثورة أعظم من رجائهم؛ لأن الثورة تقلب كثيرًا من الأشياء رأسًا على عقب، وأصحاب المال والأعمال يكرهون الانقلاب، ويؤثرون الهدوء والاطراد. ولكن المخلصين من رجال المال والأعمال فيما يقول طه حسين- لا يشفقون إلا ريثما يرجون، ولا يخافون إلا ريثما يأملون، فهم يعلمون أن كل انقلابٍ إلى اعتدال، وأن كل اضطرابٍ إلى استقرار، وأن كل ثورةٍ إلى هدوء. وبالطبع كان العقلاء من هؤلاء يدركون أن الثورة التى غيرت وجوه الأشياء فى مصر لم تحدث عبثًا، ولم تمضِ إلى غير غايةٍ، وإنما حدثت لأن ظروف الحياة المصرية والعالمية فرضت حدوثها، وهى تمضى إلى غايةٍ واضحةٍ هى تحقيق الإصلاح الذى يحقق التوازن بين الطبقات، ويملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا، ويلائم بين ماضى مصر ومستقبلها، ويلائم كذلك بين مصر والعالم الذى تتصل به، كما يلائم بين مصر والعصر الذى تعيش فيه. ويعنى ذلك فيما يذهب إليه طه حسين أن الثورة تُخرج الوطن من حياةٍ قديمة لا تستطيع البقاء، إلى حياةٍ جديدة يتمكن معها الوطن من النشاط والإنتاج، ومن النفع والانتفاع، ومن مشاركة العالم فيما يأتى وما يدع من الأمور.

هذا التصور الاجتماعى السياسى فى آنٍ هو دليل على عمق إدراك طه حسين للثورة، وقراءته للأهداف التى كان ينبغى أن تمضى فيها، لكنه يلاحظ أن الثورة لم تكن قد قامت بما يكفى من التحويلات الجذرية للواقع، فإنها تترك سحابات الشك بين رجال المال والأعمال الذين يظهرون الشكاة ويضمرون الرجاء، وينصرف بعضهم عن بعض وفى النفوس آمال يخفيها الحرص وتُذكيها الثقة. ويشبه هذا الموقف المتذبذب بين السلب والإيجاب، موقف رجال المعرفة والثقافة عندما يخلون إلى أنفسهم، فإنهم فى خلواتهم يحسون أملًا ورضًا لا سخطًا ولا خوفًا، وإنما غبطة وأمنًا ورجاءً، وهو موقف أقرب إلى الفرح والتفاؤل، وليس أقرب إلى الغضب والتشاؤم. ولذلك فهم يتبادلون التهنئة والاستبشار. وعدد منهم يعلمون أنهم هم الذين أنبتوا نبات الثورة حتى نَما وذَكا وأخذ يؤتى بعض ثماره؛ وذلك لأنهم حرروا بعض العقول من أغلالها، وأيقظوا بعض القلوب من نومها، ونبَّهوا بعض الضمائر من غفلتها، فامتاز الحق من الباطل، واستبان الصواب من الخطأ، والهدى من الضلال. وكانت النتيجة أن سخط الأقلية المثقفة على النظام البائد ما لبث أن شاع وانتشر حتى شمل كثرة الناس، ثم ما لبث أن قوى واشتد حتى أصبح ضجرًا وتبرمًا، ثم ما لبث أن استأثر بالقلوب والعقول وبالشعور والتفكير، حتى أصبح ثورة لا تكتفى بالسخط الصامت ولا بالتبرم الناطق، وإنما تُغير ما يجب أن يتغير، وتُزيل ما ينبغى أن يزول، وتقيم ما حقه أن يقام من نظامٍ جديد.

ويمضى طه حسين فى بيان فضل جيله من المثقفين الثائرين على الظلم، الذين تعاونوا فى مقاومة الظلم وتحالفوا على التخلص منه دون أن يوصى بعضهم بعضًا بما ينبغى أن يفعل وبما ينبغى أن يكون. هكذا علَّموا الناس، فكانوا يكتبون قليلًا ويقولون كثيرًا ولم يتوقفوا عن ذلك إلى أن تلقى الناس عنهم ما كتبوا وما قالوا، فخرجوا من ظلمةٍ إلى نور، ومضوا وراء هؤلاء المثقفين الذين أخرجوهم من الظلمة إلى النور، بعد أن دافعوا عن حقوقهم وبذلوا من التضحيات ما أسهم فى اقتراب مشرق الثورة. وإذا كان لهؤلاء المثقفين فَضل على الوطن، فإن من حقهم أن يحلموا له بمستقبلٍ أزهر وتقدمٍ لا ينتهى، ولذلك دعوا دائمًا إلى التعليم المنفتح، مدركين أن التعليم يقوم على معادلة: أن تعرف القلة فتتعلم منهم الكثرة. وإذا تعلم الناس غيَّروا ما بأنفسهم فيغير الله ما بهم. وتزداد القلة علمًا، فتزداد الكثرة ثقافة، وما تزال على تعاقب الأجيال تغير ما بنفسها ويغير الله ما بها حتى يبلغ الكتاب أجله، ولذلك لم تنظر الصفوة المثقفة الممتازة إلى الثورة بخوفٍ وإنما برضا، واستقبلت الثورة راضية بها، مطمئنة إليها؛ لأنها بعض آثارها مستزيدة منها؛ لأنها هى مستزيدة دائمًا من العلم والمعرفة.

هذه الكلمات السابقة كانت تعنى تأييدًا كاملًا من طه حسين لما رآه ثورةً تغيِّر المجتمع تغييرًا جذريًّا. لكنه بقدر ما تفاءل بها وَضَعَ شروطًا لتقبُّلها؛ أول هذه الشروط: أن تؤمن هذه الثورة بالعقل، وأن تمضى فى أعمالها على هدى منه، وألا تنحرف عن العقل فى تفكيرها وعملها على السواء. وهنا ينتقل طه حسين من التلميح النسبى إلى التصريح المُطلق، فيقول: «العقل حر دائمًا، ناشر للحرية من حوله دائمًا، سواء أراد الأقوياء الطغاة أم أبوا، وسواء رضى الأقوياء الطغاة أم سخطوا. وما أكثر ما يفرض بغى السلطان على العقل الحدود والقيود والأغلال. ولكنهم لا يبلغون بما يريدون وبما يفرضون من ذلك شيئًا؛ لأنهم يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتم نوره. والعقل جذوة من نور الله لا سبيل إلى إطفائها». إذن فما الذى يمكن أن يريده أصحاب العلم والمعرفة، أو جماعة طه حسين من هذه الثورة المصرية؟!

يقول طه حسين أن أيسر ما يريده المثقفون الذين ينتسب إليهم طه حسين نفسه ويقف على رأسهم من الثورة أن تخلِّى بين العقل وحريته، فيعلم ويزداد علمًا، ويُعلِّم الناس ويزيدهم تعليمًا، ويرقى بمصر ويزيدها رقيًّا. وأن تحقق هذه الثورة سُنة الله فى يُسرٍ وإسماح، وفى غير تلكُّأ ولا إبطاء، فتفتح أبواب مصر للعلم على مصراعيها، لكى تصل المعرفة إلى كل عقلٍ مهما يكن صاحبه، ومهما تكن طبقته، ومهما تكن بيئته. وهذا هو معنى قول طه حسين أن التعليم كالثقافة حق لكل مواطن، وحق على المجتمع أن يؤديه بوصفه الفريضة الأولى التى ينبغى أن يتبعها القائمون بالأمر، وكانوا حينئذ الضباط القائمين بثورة يوليو 1952.

ولم يكن طه حسين يقنع من هؤلاء بنشر التعليم الذى انتهت إليه مصر، والذى دافع هو عن ذلك ودفع ثمن ذلك، غير هياب ولا خائف أو متردد، وكان فرحه بالثورة غامرًا؛ لأنه رأى فيها مثلًا يمكن أن يحقق أحلامه، فقد رأى أن القائمين بها من أبناء الطبقة الوسطى. وأبناء الطبقة الوسطى هم المعمل الذى تُصنع فيه وبه أحلام التقدم وكل ما يحتاج إليه المجتمع كى تتحرر عقول أبنائه. وإذا تحررت عقول هؤلاء الأبناء، بلغ المجتمع كله ما يريده فى فروع الحياة جميعًا، فالاقتصاد لا يرقى إلا إذا دبَّرته عقول نافذة، ونشطت فيه عقول محرَّرة. والجيش لا يرقى ولا يقوى ولا يُحسن الذود عن الوطن إلا إذا دبَّرت أمره عقول نافذة، وائتلفت فِرقه من عقول محرَّرة، وأسندت ظهره عقول مُحرَّرة أيضًا. ويمضى طه حسين قائلًا أن الأمر نفسه ينطبق على كل فنٍّ من فنون الحياة، وفى كل مجالٍ من مجالات النشاط الإنسانى، وفى كل ناحيةٍ من نواحى العمل، فلن تجد سبيلًا إلى الرقى ولا الإنتاج ولا النشاط الخصب والعمل المثمر، إلا إذا دبَّرته عقول نافذة وعملت فيه عقول محرَّرة. التعليم قبل كل شيء كما يؤكد طه حسين، والتعليم بعد كل شيء، والتعليم فوق كل شيء.

ولذلك لم يتوقف طه حسين عن الإيمان بحرية العقل، ولكنه يُضيف إلى حرية العقل، خلاصه من أية عقبةٍ تحول بينه وبين الحرية الكاملة سواء أكان العائق تعصبًا لمذهبٍ، أو انحيازٍ إلى فكرٍ وطائفةٍ، أو تعصبًا لثقافة بلدٍ من البلدان المتقدمة والاقتصار عليها. ولذلك يقول طه حسين هذه العبارات التى ينبغى ألا ننساها؛ لأن فيها علاجًا لكثيرٍ من مشاكلنا وأمراضنا السياسية والاجتماعية والثقافية:

«العقل الحر هو الذى يتلقى العلم ويسيغه مهما يكن مصدره، والعقل الحر هو الذى لا يقنع بالعلم يأتيه من الإنجليز دون غيرهم أو من الفرنسيين دون غيرهم، والعقل الحر هو الذى لا يقبل أن يفرض السلطان السياسى عليه رأيًا من الآراء أو مذهبًا من المذاهب أو سيرة بعينها فى التفكير والتعبير والعمل والنشاط، والعقل الحر هو الذى لا يقبل ديكتاتورية مهما يكن لونها ومهما يكن غرضها ومهما يكن أسلوبها فى الحُكم. ليس العقل حرًّا فى البلاد التى تخضع للديكتاتورية الشيوعية، ولم يكن حرًّا فى البلاد التى خضعت للفاشية. هو حر فيما بينه وبين نفسه، حر فى أعماق ضميره، ولكن هذه الحرية لا تغنى عنه شيئًا، بل هى تؤذيه وتُشقيه. إنما الحرية التى يريدها العقل ويعيش بها ويذكو عليها هى هذه التى تتيح له أن يرى الرأى فيذيعه بين الناس فى غير خوفٍ ولا إشفاق».

هذه العبارات ينبغى أن نضعها فى اعتبارنا طويلًا، وأن نتأملها كثيرًا، وأن نُلح عليها كل الإلحاح، ولا نتوقف عن ذِكرها والتذكير بها، فالعقل الحر كما يقول طه حسين لا يقبل الديكتاتورية السياسية ومن ثم التعصب المذهبى فيها أو لها. والعقل الحر هو الذى يريد هذه الحرية فى كل مجالٍ ابتداء من الثقافة بوصفها أسلوب حياة إلى السياسة بوصفها أسلوب حُكم. ولذلك يرى طه حسين أن العقل الإنسانى لن يكون حرًّا حقًّا إلا إذا اعترفت السُّلطة القائمة بأن من حقه أن يُصيب ويُخطئ، لا يعاقبه على الخطأ إن دفع إليه وتورط فيه، سلطان أو جماعة، ولذلك يختم طه حسين مقاله برسالة يوجهها إلى القائمين بالثورة قائلًا لهم فى وضوحٍ كاملٍ، وحسم مُحددٍ، وعبارات ينبغى أن نتذكرها حين نصبح وحين نُمسى، خصوصًا حين نقرأ: «لن نرضى من الثورة إلا بأن يتسع سلطان العقل حتى يغذو بالمعرفة نفوس المواطنين جميعًا، وبأن تتسع آفاق العقل حتى يتلقى المعرفة من أقطار الأرض جميعًا، وبأن يعظم سلطان العقل حتى لا يخشى رقيبًا حين يفكر، ولا يخشى رقيبًا حين يعلن ما يرى خطأ كان أم صوابًا».

هذا ما كان يفكر فيه طه حسين، وما كان يحلم به أمثاله من المعاصرين، حين قامت ثورة يوليو 1952. وكان طه حسين وأصحابه مطمئنين الاطمئنان كله إلى أن «تحرير العقل» الذى جعله عنوانًا لمقاله فى العدد الخاص من مجلة «الكتاب» الذى يحتفى بثورة يوليو 1952 سيتحقق كاملًا فى مصر كما تحقق كاملًا فى غير مصر من البلاد الديموقراطية الراقية. وكان طه حسين واثقًا كل الثقةِ فى أن هذا سوف يحدث بالثورة؛ لأنه كان يراها ابنة أمثاله من المثقفين الليبراليين. كما كان طه حسين مثل هؤلاء المثقفين الليبراليين واثقًا بنفسه، وبأن الثورة سوف تُحقق آماله فى تحرير العقل، فقادتها تعلموا منه وتعلموا من كتاباته عن الحرية، وقالوا وكتبوا ما جعله يؤمن أن: «العقل أكرم عليهم، وآثر عندهم من أن يقبل خسفًا أو يُسام ضيمًا». ولكن هل تحقق ذلك حقًّا؟!

(وللحديث بقية)


لمزيد من مقالات جابر عصفور;

رابط دائم: