عقدت بعض الأمل على انعقاد مؤتمر برلين بخصوص الصراع فى ليبيا لسببين أولهما اتضاح خطورة استمراره على السلم والأمن الدوليين بما فى ذلك منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط لما هو معروف عن مكانة ليبيا فى إنتاج الطاقة وتصديرها وتداعيات الصراع الدائر فيها على قضايا بالغة الأهمية كالإرهاب والهجرة غير الشرعية ناهيك بأطماع تركيا فى ثروات شرق المتوسط، أما السبب الثانى فهو الدور المتوازن نسبياً للدبلوماسية الألمانية فى القضايا الدولية، غير أن هذا الأمل بدأ يهتز بعد محاولة روسيا وتركيا اختطاف المسار الليبى بالطريقة التى حدثت فى الصراع السوري، وهى محاولة باءت بالفشل بعد رفض حفتر التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، ثم زاد اهتزاز الأمل مع دعوة تركيا لحضور المؤتمر مع أنها جزء من المشكلة وليست الحل، وكانت دعوتها مؤشراً على أن المؤتمر سيتبنى موقفاً وسطاً بين جهود استعادة الدولة الليبية وفصائل الإرهاب، أو على الأقل لن يدين العدوانية التركية صراحة خاصة وقد بات واضحاً أن لغة المصالح تمنع البعض كروسيا من إدانة هذه العدوانية فالغاز الروسى يعبر تركيا فى الطريق إلى أوروبا ولذلك ترفض روسيا الاصطدام بها فى سوريا وليبيا معاً.
غير أن المؤتمر خلص نظرياً فى بيانه الختامى إلى رؤية شاملة وسليمة بصفة عامة لحل سياسى للصراع الليبى تنطلق من الالتزام بسيادة ليبيا واستقلالها ووحدتها الوطنية والتأييد الكامل لدور الأمم المتحدة ومبعوثها فى حل الصراع وتأكيد الالتزام المطلق بقرارات مجلس الأمن الخاصة بحظر توريد السلاح لأطراف الصراع والالتزام بعدم التدخل فى الصراع وعدم تجنيد المرتزقة ووقف إطلاق النار والامتناع عن مزيد من الانتشار العسكرى والعمليات العسكرية، وحل الجماعات المسلحة وإدماج عناصرها على أساس فردى فى مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية بعد التأكد من هوياتهم، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تشرف عليها هيئة عليا مستقلة وفعالة، وتشكيل لجنة للمتابعة من الدول المشاركة فى المؤتمر تجتمع فى المرحلة الانتقالية مرة شهرياً على مستوى كبار المسئولين ومرتين على مستوى الخبراء، وهذا كله بالإضافة إلى تشكيل لجنة لمتابعة وقف إطلاق النار من طرفى الصراع المحليين اللذين لم يشاركا فى أعمال المؤتمر مباشرة ولم يلتقيا وجهاً لوجه فى برلين، فما هى احتمالات أن تجد هذه الرؤية طريقها إلى أرض الواقع؟
للأسف فإن الخبرة الماضية لا تعطى مساحة كافية للأمل فى التطبيق الناجز لهذه الأفكار، ولدينا عديد من الاتفاقات السابقة التى بدا فى حينها أنها كانت فاصلة فى الحل لكن التطورات اللاحقة أثبتت سذاجة هذه الآمال بسبب تجذر عوامل الصراع بين أطرافه ووجود قوى صاحبة مصلحة فى استمراره، وقد تجاوز اتفاق أوسلو ربع القرن عمراً ومازالت القضية الفلسطينية فى المربع صفر بل تقهقرت كثيراً بسبب ممارسات إسرائيل ومن وراءها، واتُخذت قرارات عديدة بشأن تسوية الصراع فى كل من سوريا واليمن دون جدوى، وكانت النتيجة على الدوام هى استمرار التصعيد أو المزيد منه، وفى الصراع فى ليبيا تحديداً تم التوصل إلى اتفاق الصخيرات في2015 لكن الوضع بقى كما نراه الآن، وتشير دروس هذه الخبرة إلى أن التوصل إلى اتفاق، شىء وتنفيذه شىء آخر، بسبب تعقد الصراع وتشابك مصالح أطرافه المحلية والعربية والإقليمية والعالمية، ويُضاف إلى هذا الدرس العام بعض الملاحظات الخاصة ببيان مؤتمر برلين تحديداً، وأولى هذه الملاحظات بالتأكيد أن البيان وإن طالب بالالتزام المطلق بقرارات مجلس الأمن الخاصة بحظر تزويد أطراف الصراع بأسلحة وطالب بالامتناع عن التدخل فى الصراع وتجنيد المرتزقة إلى آخر ما رأيناه فى محتوى البيان لم يُشر بحرف إلى الانتهاك التركى الصارخ لتلك القرارات بل وعقد اتفاقية أمنية باطلة مع السراج استُند إليها فى الإعلان عن إرسال قوات تركية إلى ليبيا سرعان ما عدل أردوغان عنه واستبدل به إرسال خبراء ومستشارين ومرتزقة من المقاتلين مع تركيا فى سوريا بغض النظر عن جنسياتهم، وكان واضحاً أن رد الفعل المصرى والأوروبى قد دفعاه إلى التعقل، والملاحظة الثانية أن البيان اعتمد اتفاق الصخيرات أساساً للحل رغم ما فيه من عوار ورغم الأمل قبل المؤتمر فى إصلاح هذا العوار وإن كان حديث البيان عن تأسيس مجلس رئاسى قابلا للعمل وحكومة موحدة شاملة وفعالة يوافق عليها مجلس النواب قد يشير إلى نية إصلاح المؤسسات التى اهترأت بعد الاتفاق وبالذات المجلس الرئاسي، والملاحظة الثالثة تتعلق بعملية إدماج الميليشيات فى مؤسسات الدولة، ورغم أن البيان قد تحوط لذلك بوضع شروط إلا أنها عملية شديدة الحساسية وما لم تراع فيها أقصى الضوابط يمكن أن تجعل دولة المستقبل فى ليبيا رهينة للميليشيات بطريقة لن تختلف كثيراً عن حكومة السراج، والملاحظة الرابعة أن البيان استخدم مصطلح إعادة الانتشار عند حديثه عن الأسلحة الثقيلة دون تحديد المقصود بذلك مما يفتح الباب لخلافات واسعة فى هذا الصدد، وأخيراً وليس آخراً فإن الحديث عن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف هيئة عليا مستقلة لا يكفي، وإنما كان من الواجب إثارة فكرة الإشراف الدولى والضمانات الدولية التى تبدأ بمراقبين دوليين وتصل إلى الحديث عن قوات دولية سواء أوروبية أو أممية، ومن المهم أن ثمة حديثاً فى أوساط الاتحاد الأوروبى عن هذا البعد تحديداً، والخلاصة أنه أياً كان تقييمنا لحصاد برلين أن العبرة بالإرادة الدولية فى تنفيذ مقررات المؤتمر وهى إرادة صعبة التبلور لأن التناقض بين أطراف الصراع وتشابك الصراع بينها ليس بالهين، وهو ما قد يعنى للأسف أن مستقبل الحل السياسى مظلم، ومن الأهمية بمكان والباعث على الاطمئنان أن مصر وهى الدولة الأكثر تضرراً بما يجرى على أهبة الاستعداد على المستويات كافة لمواجهة أسوأ الاحتمالات.
لمزيد من مقالات د.أحمد يوسف أحمد رابط دائم: