على النقيض تماما من نمط الإنسان المتسامي الذى يتغذى، فى اعتقادنا، على موارد أساسية كالإيمان والحب والمعرفة والفن، يفتقر الإنسان الوظيفى إلى جميع تلك الركائز الجوهرية أو أغلبها. ورغم أنه قد يدعيها، فالأغلب أنه لن يتمثلها بل يسعى فقط إلى توظيفها في خدمة نزعات التملك والتسلط المحركة له، أى حيازة الثروة والسلطة. فالشخص الوظيفى قد يدعى الإيمان بتمثل مظاهره كالذقن الطويل ذى الشعر المنسدل أو الجلباب القصير مع البنطال الطويل، أو تلك الجبهة العريضة المختومة بنسر التقوى. وقد يدعى الحب بترديد بعض كلماته أو ممارسة بعض طقوسه ولكن من دون إخلاص لمعناه الجوهرى، فالمشاعر الزائفة ربما كانت طريقا لتلبية رغبة حسية، أو زيجة مفيدة فى إصابة مال ونيل سلطة، أو فتح طريق لترق وظيفى. وقد يدعى المعرفة، بممارسة بعض طقوس الثقافة، إذ يشترى الكتب ويحملها على صدره، ويقتنى مكتبة أنيقة يرص عليها مجلدات فى شتى فروع المعرفة، وربما يدعو الناس إلى رؤيتها، لكنه غالبا لا يقرأ منها سوى القدر الذى يساعده على الادعاء، يحفظ عناوين الكتب ويرصع ذاكرته بأسماء المؤلفين، من دون أن يتأمل مغزى أعمالهم أو مضمون رسائلهم، فلا الحقيقة قصده ولا المعرفة طريقه. وأخيرا قد يدعى الفن، يذهب إلى منتدياته، يحضر حفلاته، بل يقتنى أحيانا منتجاته، خصوصا اللوحات التشكيلية الثمينة، لو كان مقتدرا، فقط ليدعى أنه أرقى ذوقا أو أعلى مكانة.
يدعى الشخص الوظيفى هذا كله، ويمارسه ظاهريا، لكنه يظل فقيرا جوهريا، يجسد ما كان فيلسوف مدرسة فرانكفورت هربرت ماركوزا قد سماه فى كتاب يحمل العنوان نفسه «الإنسان ذى البعد الواحد»، أى المسطح الذى يقترب في أقصى حالاته الاختزالية من موقع آلة تؤدى دورا مخططا على نحو مسبق، إلى درجة يرى معها نفسه غير مسئول عن نتائج أفعاله. ففى حال كان يعيش داخل شرط إنسانى سلبى، يبدو مستعدا لأن يكون (عبد المأمور) فينفذ أوامر لا أخلاقية سواء من سلطة عليا مستبدة كالتعذيب إلى درجة انتهاك الأجساد، أو من ذوى الثراء والنفوذ الذين يحيلونه أحيانا إلى قاتل بأجر، يتسلط على البشر الأسوياء الذين يرفضون مخططاتهم ولا يخضعون لأهوائهم، فتراه يقتل رجلا أمينا أو يشوه سمعة سيدة فاضلة خلاصا من قيمة الشرف، الخ. أما إذا كان يحيا في ظل شرط إنسانى إيجابى، ويملك موارد قوة ملحوظة فالأغلب أنه يركز جهده فى محاولات لزيادة حصيلته، إما من السلطة كى يتحكم فى أقدار الآخرين كما يتصور، وإما من الثروة التي تكفل له حيازة الأشياء والمقتنيات التى لا يملكها هؤلاء الآخرون. وهكذا لا يبقى العالم الخارجى، الذى يحتوى على مقتنياته، أو يشهد نفوذه، مجرد مجال لفعله وحيويته، بل يصبح مركزا لإلهامه ومرجعا لأحكامه، فلا يعود لذاته قيمة جوهرية أو حضور متميز فى هذا العالم، بل يصير مجرد ترس فى آلة شر جبارة، محض أداة تدور فى فلك العالم وما يمور به من صراعات من أجل تلبية حاجات الحواس على حساب الخيال الخلاق والإرادة الحرة والمثل العليا.
بالقطع لا يمكن لإنسان وظيفى أن يحب الآخرين حبا حقيقيا، بفعل طبيعته الأنانية التي تجعل الرغبة في التملك والسيطرة أساس إحساسه بالهوية. أما المدهش فى حياة هذا الإنسان فكونه عاجزا عن أن يحب نفسه بالمعنى الجوهرى العميق، ففى سعيه للسلطة والثروة لابد أن يخدم حائزى هذه السلطة وتلك الثروة، أن يتقرب إليهم كى يمنحوه بعضا منهما، أن يلعب الأدوار التى لا يستطيع هؤلاء أو لا يرغبون فى أن يلعبوها، يلعبها طبعا بتكليفهم، وبتسهيلات يوفرونها له، وهذا ما يفسر لنا وجود بعض الأشخاص الذين يمثلون ظواهر زاعقة فى حياتنا، إذ يلعبون أدوارا تفوق أحجامهم الطبيعية فى إلهاء الناس وإثارة اللغط حول سفاسف الأمور، وهؤلاء ينشطون أكثر فى فترات التيه الوطنى والتدهور الاجتماعى، والتى تتناقض فيها جذريا قيمة البشر الجوهرية مع حظوظهم الآنية، فيصبح من لهم قيمة حقيقية، معرفية وأخلاقية، لا ثمن لهم فى سوق الحياة السائدة، ومن لا قيمة حقيقية لهم هم أصحاب العوائد الأكبر والحظوظ الأعلى، كونهم يؤدون وظيفة تخدم وضعا بذاته، يعلو نجمهم معه، قبل أن يحترق أغلبهم بفعل فاعل، ويتمكن أقلهم من الصعود واحتلال مواقع أسيادهم من سدنة السلطة والثروة السابقين، ليصبحوا هم السدنة الجدد. المفارقة الأكبر هنا، أن هذا الإنسان الوظيفى، بعد فترة طالت أو قصرت، سوف يغترب عن نفسه حتى يغيب تماما عنها فلا يعود يعرفها، ولا يبقى قادرا على استعادتها من براثن تلك الحالة الوحشية. ربما يتململ منها أحيانا عندما تهتز لديه بقايا ضمير، أو حتى يكرهها في تلك اللحظات التحولية الشجية أو المؤلمة من حياته حيث تفجعه أحداث أو مواقف تثير العبرة وتدعو إلى الاعتبار، غير أنه سرعان ما يعود إلى سيرته الأولى بمجرد عبور تلك اللحظات الاستثنائية.
ولأن الشخصية الوظيفية تبدو معدية، يصبح طبيعيا أن تنمو الرغبة في الهيمنة والتملك لدى الكثيرين داخل المجتمع الواحد، وأن يخاف كل شخص من أن يأتى ثراء الآخر أو هيمنته على حسابه هو، فينمو توجسه إزاء الآخرين جميعا. وخشية أن يكون محلا لعدوانهم يسعى هو نفسه إلى الهجوم عليهم بأشكال العدوان المختلفة، وهنا تنمو أشكال الفساد والاحتكار، وتترعرع أشكال الاستبداد والعنف، ويصبح المجتمع فقيرا تماما ولو كانت موارده غزيرة جدا، كونه في حالة أشبه بحرب الجميع ضد الجميع. بل إن تلك الحالة المجتمعية سرعان ما تطرح آثارها على العلاقة بين المجتمعات والدول، فيتراجع السلم، كتعبير عن علاقات انسجام وتوافق بين الأمم، وهو ما حدث فى أغلب عصور التاريخ سواء فى زمن البداوة والفقر أو فى زمن الرفاه والتقدم، حينما تطور العلم واستطاعت التكنولوجيا أن ترفع مستوى حياة البشر, ذلك أن الجشع الفردى، والتناقض الطبقى، والتحيز الدولى، ليست جميعها سوى قيود حديدية تعرقل مسعى الإنسان نحو الاستنارة والتقدم، وتمنع تقدمه نحو الفضيلة والعدالة والحرية.
[email protected]لمزيد من مقالات صلاح سالم رابط دائم: