نظر فرأى صاحبه يحلق بناظريه فى السماء، هائما، فكأنما يعد نجومها فى عِزّ الظهيرة.. سحب سحبة معتقة من الشيشة المزدهرة الراقصة المتألقة أمامه كتألق عروس ليلة زفافها ثم أعاد النظر إلى الصاحب فرآه يضحك لكائن خرافى بالفضاء. كان كمن يضاحك نفسه. سأله مندهشا: ماذا يضحكك يا جميل.. أشركنا معك.. أضحكَ اللهُ سِنّك. اتسعت ابتسامة الآخر ثم همس: أبدا.. لقد تذكرت ابنى الأصغر.. طلب مِنّى فلوسا فى الصباح فلمّا استفسرتُ فيمَ ستنفقها إذا به يردّ: مشّيها بالحب يا حاج خليك جدع.. قُلْتُ: يعنى إيه؟ أجاب: يعنى يصير خير.. على رأى أشقائنا بالخليج.. وخطف الورقة (أم مائة) من يدى ومضى لا يلوى على شيء. طبعا لم أفهم ما قاله.. فهل فهمت أنت شيئا؟.
ضحك هو فامتزجت ضحكته بالدخان الصافى المعطر والتقيا بأعلى قصبته الهوائية فراح يسعل.. وأبت عيناه إلا أن تجودا بالدمع. وعندما هدأت القصبة، وسكنت بالمآقتين الدموع، قال ضاحكا: عجيبة.. ألم تسمع هذا المصطلح من قبل يا رجل؟ إنه يا باشا منهج أبنائنا وبناتنا فى هذه الأيام ويتبادلونه معا ليل نهار. تمددت التكشيرة فى جبين الصاحب، الذى تهدّل بفعل السنين، ثم هتف: أبدا يا اخويا وحياتك لم أسمعه من قبل.. فهيا اتحفنى يا خبير المصطلحات والمناهج. اعتدل هو منتشيا سعيدا إذ ها هو أثر سحبتى المعسل ( اللتين فلوسهما حلال) لن يضيع هباءً.. ولسوف نتفلسف!.
قال: بُصّ يا سيدي.. إن للعبارة التى باغتك بها نجلك العزيز معنيين فأرجوك ركّز معي. المعنى الأول بريء بسيط واضح، والثانى خبيث معقّد غائم. فأما البريء فهو أنك يا أبى يجب ألا تشغل نفسك بالتفكير فى كل كبيرة وصغيرة واتركنى آخذ قراراتى بنفسى ومشيها بالحب الله يسترك. وأما الغامض الملتوى العميق.. فهو ببساطة: وانت مالك انت.. أنا حر.. إيش أدخلك فيما ليس لك فيه.. إن جيلك كله ( أيها الأب الكريم) عاجز عن إدراك ما نحن نعنيه أو نفكر فيه.. وطبعا فإن ابنك كان يقصد المعنى الأول وليس الثانى لأنه حسب علمى ولد متربّى طالع لأبيه!.
انتفض الصاحب زاعقا: واللهِ لإن بدأتَ فى الغلط فسوف أترك لك المقهى وأرحل.. تكلم بأدب. ضحك هو وهمس: ماشى يا كابتن.. تعال الآن نغوص فى الدلالات المخفية للمصطلح بعيدا عن حروف كلماته الظاهرة. إن الرأى عندى أن الشياطين الصغار، وهُم يخترعون هذا الإفّيه، إنما لمسوا وترا حساسا فى تفكيرنا، نحن المصريين، فى هذا العصر. والحق إنه وتر يلخص ما آلت إليه أحوالنا، وما أصبحنا عليه. إنهم يا صاحبى يريدون إبلاغ بعضهم البعض، وإبلاغنا نحن الكبار، بأن كثرة المناهدة والتفكير والحسابات المعقدة لن تؤدى إلى شيء.. فبالراحة كِده.. ومشّى حالك.. وربّى عيالك.. حيث إن الأمور ستمضى على حالها شِئت حضرتك أم أبيْت .
.. لكنه للأسف منهج فى التفكير يحمل فى طياته سمّا زعافا قد يوردنا موارد التهلكة. لييييه؟ لأنه دعوة صريحة للطناش والسلبية وفقدان الأمل واليأس المقيم. اسمع. إنه ببساطة (لو قلبته على وجهه الآخر) سيكون تكرارا للعبارة الممقوتة التى درجنا عليها فى كثير من مواقف حياتنا؛ عبارة (يا عم ما فيش فايدة).. أو لعل به رائحة من عبارة (ضربوا الأعور على عينه قال خسرانة خسرانة). ولعلم سيادتك فإن نظرية مشّيها بالحب هذه ليست من اختراع العفاريت الصغار كما قد تعتقد بل هى ميراث طويل اخترعه كبارنا منذ آلاف السنين.. واقرأ تاريخنا لو أردت!.
تفكّر الصاحب قليلا ثم تمتم: يعنى الولد على حق؟ صرخ هو وقد احمرّت عيناه: أبدا.. أبدا.. أبدا. إن فى اعتيادنا عادة (مشيها بالحب) المرذولة تلك مخاطر ثلاثة: أولها، أن فيها مصادرة على الحوار والتفاوض وتبادل الرأى والمشورة.. لأنه مادامت الحياة ماشية تمام تمام ( بالحب) فما الداعى للمناقشة.. ما خلاص خلصت.. وهذه بداية النهاية لأى أمة راغبة فى التطور والانطلاق إلى الأمام. وأما الخطر الثاني، فهو أن بها دعوة إلى الكسل والتراخى وتثبيط الهمم.. إذ لماذا أعمل وأجتهد مادامت العملية ماشية بالحب؟ قل لي: ألا تجد المزوّغين والمهملين فى أعمالهم ووظائفهم عندنا يكررون هذه العبارة ليل نهار؟. ثم يبقى الخطر الثالث الأعظم، وهو أنه منهج عقيم يصادر على دراسة أحوالنا بتأنٍ وعلمية وعصرية، ويحيل الأمر إلى العشوائية والشعوذة وبركة دعاء الوالدين، فإذا بنا محلك سِرّ، ندور فى حلقة مفرغة، فنظل فى ذيل الأمم. فى تلك اللحظة أتى فتى المقهى طالبا الحساب فهمس صاحبه له: ادفع أنت يا معلم. صرخ هو: لأ طبعا.. الدور عليك فى الدفع. قال الصاحب: معلهش.. مشيها بالحب المرة دي.. وهرول مغادرا!.
لمزيد من مقالات سمير الشحات رابط دائم: