رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

غاندى ومانديلا وديجول

سطعت فى سماء البشرية فى العصر الحديث شخصيات مؤثرة فى مسار الحياة السياسية والإرهاصات الفكرية والتجليات الوطنية، وقد اخترت شخصية من كل قارة, من قارات العالم القديم الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا, لكى ألقى الضوء من خلالها على الدور الكبير الذى لعبته تلك الشخصيات الكبرى فى القرن الماضي، وأبدأ بالقارة الأولى فاختار المهاتما غاندى كأعظم شخصية خرجت من آسيا فى القرن العشرين؛ إذ أن ذلك الزعيم الزاهد يسبق فى ظنى ماو تسى تونج أو غيره من الأسماء الكبرى التى تأتى بعده فى الترتيب من تلك القارة الأكبر فى جغرافيا الكون، ولا يقف اسم غاندى عند حدود شخصيته مقاومًا عنيدًا للسيطرة الأجنبية والاحتلال البريطانى, ولكن الرجل يتجاوز ذلك لكى يكون روحًا تعيش فى التاريخ البشرى كله دون زوال وفلسفة تستقر فى أعماق الشعوب ما دامت الحرية هدفًا والاستقلال غاية والمقاومة السلبية أسلوبًا لمواجهة قوى الشر والطغيان، إن تاريخ حياة المهاتما غاندى يجعله تجسيدًا لإنسان العصر بشفافيته وطهارته ونزاهته وتسامحه وبغضه للتعصب ورفضه ثقافة الكراهية حتى دفع حياته ثمنًا لهوس متطرف هندوكى عاب على المهاتما محاولته احتواء الأقليات والمساواة بين أبناء وطنه, فقد كانت حياته بما فيها من زهد وتقشف وقناعة ورضا نموذجًا رائعًا لا يتوقف عند حد، لقد فتح آفاقًا واسعة أمام أمته الهندية وقارته الآسيوية امتد تأثيرها فى أرجاء الدنيا, بل إن الحقبة التى عاشها فى جنوب إفريقيا قد تركت هى الأخرى أثرًا إيجابيًا امتد إلى أنحاء القارة السمراء؛ دعونا نقول مع أحمد شوقى أمير الشعراء: سلام النيل يا غاندى وهذا الزهر من عندى, والتى قالها عندما كان يمر الزعيم العظيم بملابسه القليلة المتواضعة وشخصيته العبقرية النظيفة من قناة السويس فى طريقه إلى مؤتمر المائدة المستديرة فى لندن، أما النموذج الثانى فهو نيلسون مانديلا ذلك المناضل الإفريقى العملاق الذى قضى أحلى سنوات عمره وراء قضبان السجون لمدة طالت لنحو سبعة وعشرين عامًا ثم خرج الرجل من الزنزانة المظلمة بقلب مضيء ونفس راضية وشعور طيب تجاه الجميع بمن فيهم جلادوه الذين أساءوا إليه وحرموه أجمل سنوات حياته، ولقد خرج الرجل لينهى إلى الأبد السياسات العنصرية ضد مواطنيه ويفتح بابًا للمواطن الإفريقى فى قيادة بلاده وإدارة شئونه وظل عملاقًا حتى الرحيل لا ينطق إلا بالحكمة، ولا يفكر إلا فيما ينفع الناس ويرفض التعصب ويلفظ الكراهية ويؤمن بالإنسان سيد الكون وصانع المعجزات، ولقد ترك من بعده رصيدًا ضخمًا يعبر به عن شخصية إفريقيا ودورها الجديد فى العلاقات الدولية الراهنة وعالمنا المعاصر، ولقد كان الرجل مدافعًا أمينًا عن القضية الفلسطينية، مؤمنًا بحق الشعوب فى تقرير المصير، حاملًا رايات الحرية وسط جماهير الشعوب المختلفة فى العقود الأخيرة، فإذا انتقلنا إلى النموذج الأوروبى فسوف نجد أن العملاق ـ شكلًا وموضوعًا ـ شارل ديجول هو النموذج الذى يلفت النظر سابقًا نابليون فى مكانته وونستون تشرشل فى عبقريته لكى يطبع اسمه على القارة الأوروبية نموذجًا مضيئًا باعتباره بطل المقاومة ضد النازى وزعيم فرنسا ورائد تحريرها فى الحرب العالمية الثانية، وهو أيضًا الذى انتشلها من المستنقع الذى وضعها فيه الثوار الجزائريون، فكان على يدى هذا القائد العظيم إنقاذ فرنسا مرتين إحداهما فى الحرب العالمية الثانية والأخرى فى الاتفاق على استقلال الجزائر وتحرير شعبها الأبي، ولقد وضع الرجل بذور استقلال السياسة الفرنسية وتميزها وسط المجموعة الغربية بدرجة من الاختلاف الإيجابى عن السياسة الأمريكية المندفعة غالبًا، لذلك ظلت الديجولية شعارًا فرنسيًا لتجمع سياسى لعب دورًا كبيرًا فى فرنسا بعد رحيل ديجول، ومازلنا نتذكر كلماته فى رثاء الزعيم العربى الراحل عبد الناصر خصوصًا أن شارل ديجول كان قد اتخذ موقفًا شريفًا للغاية من الصراع العربى الإسرائيلى ومنع إمداد الدولة العبرية بالسلاح الفرنسى لأنها بدأت بالعدوان فى يونيو عام 1967، ولذلك يظل اسمه مقترنًا بالكبرياء الوطنية والشرف الإنسانى على مر العصور، فقد عاش شامخًا ورحل عظيمًا، ولقد جمعتنى جلسات بالرئيس الاشتراكى الفرنسى الراحل فرنسوا ميتران عندما كنت سكرتيرًا للرئيس الأسبق مبارك وكنت أتأمل ذلك الرئيس الفرنسى الرصين وأتذكر أنه كان منافسًا لشارل ديجول فى الانتخابات الرئاسية فى ستينيات القرن الماضى وكان ذلك يضيف لميتران فى ذهنى قيمة أخرى بسبب دوره التاريخى فى منافسة العملاق الفرنسى الكبير شارل ديجول، الذى أبى أن يقبل النسبة التى حصل عليها فى انتخابات الرئاسة الفرنسية بعد أحداث الشباب فى باريس والمدن الفرنسية الأخرى فى نهاية ستينيات القرن الماضى حيث قرر ديجول اعتزال الحياة السياسية إلى أن رحل بعدها بفترة وجيزة .. لقد كان عملاقًا أوروبيًا نتذكره دائمًا! هذه شموع ثلاث احترقت لكى تضيء الطريق أمام البشرية فى القارات القديمة - آسيا وإفريقيا وأوروبا - وتجاوزت تلك الشموع بضوئها حدود بلادها لكى تطبع فلسفات عميقة عندما يتحدث الناس عن فلسفة غاندى أو نضال مانديلا أو عظمة ديجول، وسوف تظل هذه النماذج الباهرة نبراسًا فى السياسات الوطنية والعلاقات الدولية بل التاريخ الإنسانى كله، لقد حمل هؤلاء العظام مشاعل الحرية ومصابيح الضوء واتفقت تصرفاتهم مع أفكارهم وخرجوا بالسياسة من إطار الرياء وتشوهات الكذب وصراخ الشعارات الرنانة.. لقد رحلوا عن عالمنا ولكنهم يظهرون بين حين وآخر كومضات مضيئة لدى الإنسان فى كل زمان ومكان.


لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى

رابط دائم: