ينشغل الإسرائيليون هذه الأيام فى البحث عن إجابات للسؤال الصعب الذى فرض نفسه عليهم عقب نجاح الأمريكيين فى اغتيال الجنرال قاسم سليمانى قائد «فيلق القدس» بالحرس الثورى الإيراني. فعلى الرغم من مشاعر الفرح الغامرة التى اجتاحت الإسرائيليين فإنه كان هناك منهم من يتحسب بجدية لحساب التداعيات السلبية، وليس فقط الإيجابية، لإخراج قاسم سليمانى من ساحة المواجهة ضد إسرائيل. هؤلاء اهتموا بالبحث فى الإجابة عن: كيف ستؤثر عملية اغتيال سليمانى على إسرائيل؟ وكيف يمكن لإسرائيل أن تتعامل مع الواقع الجديد، أى واقع ما بعد اغتيال سليماني؟ الاقتراب من البحث عن الإجابة لهذه التساؤلات كان من المستحيل أن يتجاهل حقيقة مهمة وهى أن إسرائيل ليست بعيدة تماماً عن عملية الاغتيال هذه، وأنه من الضرورى البدء بالاعتراف بأنها كانت طرفاً فى هذه العملية، سواء كانت طرفاً مباشراً أم غير مباشر، أى سواء كانت شريكة فى التنفيذ أم اكتفت فقط بالتخطيط وتوفير المعلومات. فقد تحدثت صحيفة «جلوبس» الاقتصادية العبرية عن إمكانية «أن يكون الأمريكيون قد تلقوا مساعدة من جهاز مخابراتى غربي» فى تلميح مباشر إلى المساعدة الإسرائيلية، وهذا ما أكده دوليان بورجر مراسل صحيفة «الجارديان» البريطانية فى واشنطن عندما كتب أن «مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى هو صاحب قرار اغتيال قاسم سليمانى بالتنسيق مع الموساد الإسرائيلي».
هذه العلاقة بين إسرائيل وعملية اغتيال سليمانى أكدتها مؤشرات أخرى أكثر جدية منها تركيز اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلى فى أول اجتماع له بعد الاغتيال يوم الأحد (5/1/2020) على بحث تداعيات عملية الاغتيال وكيفية التعامل مع تعرض إسرائيل لقصف أهداف عسكرية وبنى تحتية كرد انتقامي، ومنها حالة التوتر التى سيطرت على نيتانياهو وجعلته يوقع نفسه فى «الخطأ غير المحسوب» ويلوح بامتلاك إسرائيل القنبلة الذرية فى محاولة يائسة لردع أى تفكير انتقامى إيرانى ضد إسرائيل. ومنها كذلك حرص مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى على تأكيد اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلى قبل تنفيذ عملية الاغتيال، ثم تجديد هذا الاتصال بعد التنفيذ وحرصه على أن يقول إنه «سيظل ممتناً على الدوام لدعم إسرائيل الثابت فيما يتعلق بدحر الإرهاب». بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن أى تفكير استراتيجى إسرائيلى فى التخطيط لكيفية التعامل مع التداعيات المحتملة لعملية اغتيال قاسم سليمانى سيظل تفكيراً وتخطيطاً مختلاً، لسبب أساسى هو أن إيران تدرك حتماً أن إسرائيل متورطة وشريكة فى هذا الاغتيال وعليها بالتالى أن تكون شريكة أيضاً فى دفع أثمانه، أى أن التخطيط الإسرائيلى يجب أن يبدأ من حقيقة أن إسرائيل متهمة مثل الولايات المتحدة باغتيال سليماني، وأنها عاجلاً أم آجلاً ستكون شريكاً فى دفع الأثمان، ومن ثم يصبح السؤال الإسرائيلى الأهم هو: كيف يمكن التحسب لهذا الخطر؟ وكيف يمكن مواجهته؟ وقبله ما هى المخاطر المحتملة؟
من أبرز الاجتهادات بهذا الخصوص ما أورده نائب رئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى السابق عيران عتصيون، والذى شغل منصب المسئول الكبير فى وزارة الخارجية الإسرائيلية فى حديثه مع هيئة البث الإسرائيلية العامة (كان) الذى حدد ثلاثة سيناريوهات محتملة، وفقاً لما يطرحه مجلس الأمن القومى الإسرائيلى والمعلومات التى جرى الحصول عليها من الموساد والجيش الإسرائيلى ووزارتى الأمن الداخلى (الشاباك) والخارجية، فى المدى القصير. هذه السيناريوهات هي:
أولاً: السيناريو التوافقي. ويتمثل بتوصل أمريكا وإيران إلى تفاهمات مشتركة من خلال وسطاء تؤكد قواعد اللعبة بينهما، بحيث تمتنع الدولتان عن المس بأهداف الأخرى المدنية والعسكرية سواء على أراضيهما أو على أرض دولة ثالثة. وأكد أن هذا السيناريو سيمنح الولايات المتحدة فرصة أن تعلن أنها حققت نصراً إلهياً، يمكن أن يتيح للرئيس ترامب أن يخوض انتخابات رئاسية مريحة وناجحة، لكن نسبة نجاح هذا السيناريو كما يراها الإسرائيليون منخفضة.
السيناريو الثاني: بقاء الأمور على ما هى عليه من التصعيد سواء بشن إيران عمليات ضد أهداف أمريكية، أو باضطرار أمريكا إلى الشروع فى الانسحاب من العراق، فى ظل رفض روسي- صينى لأى عمليات عسكرية أمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية، بكل ما يعنيه ذلك من اضطراب فى إدارة أمريكا للصراع ضد إيران. ويرى الإسرائيليون أن فرص نجاح هذا السيناريو من متوسطة إلى عالية.
السيناريو الثالث: يتمثل بتدهور الوضع فى منطقة الخليج من خلال مهاجمة إيران أهدافا أمريكية فى دولة ثالثة، أو المس بحرية حركة الملاحة، من وجهة نظر ترامب الذى سيجد نفسه مضطراً إلى الرد بضرب أهداف عسكرية داخل إيران. هذا السيناريو يمكن أن يؤدى إلى نشوب أزمة دولية وارتفاع غير مسبوق فى أسعار النفط، وربما تعرض إسرائيل للقصف من سوريا ولبنان، ما يعنى التدهور السريع إلى حرب إقليمية. ويرى الإسرائيليون أن فرص نجاح هذا السيناريو بين متوسطة إلى منخفضة.
واضح أن هذه السيناريوهات قاصرة، وأنها تحجب إسرائيل عن تداعياتها، ضمن مسعى إنكار أنها طرف مباشر، من وجهة النظر الإيرانية، فى اغتيال سليماني، أى أنها تتجاهل ما يمكن اعتباره» سيناريو رابعا» تجد فيه إسرائيل نفسها متورطة فى حرب إقليمية إذا ما تم اعتماد سياسة «حرب الاغتيالات». هذا السيناريو الرابع سيفرض «حرب اغتيالات» من الطرفين قد لا تتحملها إسرائيل، وقد تدفعها إلى السيناريو الخامس أى الحرب المباشرة مع إيران وهى الحرب التى إن حدثت، لن تكون إيرانية- إسرائيلية فقط، بل سيشارك فيها حلفاء طهران، وهنا سيكون المأزق الكبير أمام قادة كيان الاحتلال الإسرائيلى فى ظل حسابات عسكرية معقدة مع إيران وحلفائها، وفى ظل حسابات سياسية أكثر تعقيداً، سواء مع الرئيس الأمريكى الذى لا يريد حرباً مع إيران وهو يتجه إلى خوض غمار انتخاباته الرئاسية، أو فى ظل رفض دولى قوى خاصة روسي- صينى لمثل هذه الحرب فى وقت ينشغل فيه الجميع فى أمور تسوية أزمات أخري. فكيف ستدير إسرائيل سياستها لمواجهة كل تلك المخاطر والتحديات؟ هذا هو ما يعجز الإسرائيليون عنه الإجابة عليه حتى الآن.
لمزيد من مقالات ◀ د. محمد السعيد إدريس رابط دائم: