رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جديد موسكو فى الشرق الأوسط

كثير من المحللين الروس والغربيين وبعض العرب يرون أن روسيا أصبحت الآن لاعبا رئيسيا فى الشرق الأوسط، وأن أهدافها تتوافق مع أهداف العديد من الدول فى المنطقة، فضلا عن كونها محل ثقة الأطراف المحلية التى يتعاملون معها، لكن البعض يحذر من أعباء التورط الأكبر- كما نراه الآن- من إمكانات روسيا مقارنة بالإمكانات الأمريكية أو الغربية عامة. تاريخيا الكثير من شعوب المنطقة لاسيما فى الشمال الإفريقى ينظرون بإيجابية إلى التحركات الروسية باعتبارها قائمة على مصالح مشتركة ولا تتدخل فى الشأن الداخلى كما يفعل الغرب الذى يرفع دائما راية ما يصفه بالحق بالتدخل لاعتبارات حقوق الإنسان والتحول الديمقراطى، وهو ما لا تفعله روسيا، والتى تعتمد إجمالا منطق المنافع المشتركة إضافة الى ترسيخ دور الدولة الوطنية بعيدا عن التدخلات الغربية والتطفلات غير المنطقية، وأولوية هزيمة الجماعات المتطرفة والمسلحة والإرهابية التى تعمل ضد الدولة ولمصلحة خطط واستراتيجيات تعتبرها روسيا فوضوية وغير قانونية، ورافق ذلك تحفظات روسية كبرى تجاه التغيرات الشعبية التى جرت فى عدد من بلدان المنطقة منذ العام 2011، استنادا إلى قناعة أن هذه التغيرات الشعبية ضد مبدأ الاستقرار الذى تؤمن به روسيا باعتبارها قوة محافظة لا تميل إلى المغامرات غير المحسوبة. هذه الامور الآن تدخل مرحلة مراجعة كبرى. فمنذ التدخل الروسى العسكرى المباشر فى سوريا خريف 2015، باتت روسيا لاعبا مندمجا بقوة فى الشأن السورى والاقليمى، وكان لتدخلها وما زال دور كبير فى تغيير الخريطة الاستراتجية فى الداخل السورى وفى المحيط الإقليمى، ويدل على ذلك تطور علاقاتها مع دول الخليج لاعتبارات تتعلق بالنفط وضبط اسعاره بما يفيد الجميع من حيث تحقيق مستوى معين من العائدات، وأيضا مبيعات السلاح المتقدمة، وذلك رغم الخلافات أحيانا حول مستقبل سوريا ودور الرئيس الأسد. الأمر الذى أظهر مرونة كبرى فى المواقف الروسية، وحرصها على تحقيق مكانة وتأثير لم تكن متاحة من قبل. والمتفق عليه أن تطورات السياسة الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب، والمتأرجحة بين ترسيخ الوجود الأمريكى أو الانسحاب الجزئى بما يعنيه من إتاحة مساحة فراغ استراتيجى فى عموم المنطقة، تساعد روسيا على اكتساب مزيد من مواقع التأثير، وامتداد النفوذ والسعى إلى فرض دور روسى فى حل بعض الأزمات المستعصية فى المنطقة، لاسيما تلك التى تبتعد عنها واشنطن لحسابات تبدو أحيانا غير مفهومة، وأحيانا أخرى تصب فى توريط موسكو فى خضم الأزمات واستنزاف قدراتها. وفى السياق نفسه يرى محللون أن الأمر أشبه بعملية تسليم وتسلم ما بين واشنطن الراغبة فى الانسحاب والتركيز على التهديدات الصينية، وبين موسكو المندفعة فى الشرق الأوسط متصورة أنها قادرة على الحفاظ على شعرة معاوية أو اكثر منها قليلا مع كل القوى المتصارعة والمتنافسة فى آن واحد. أيا كان التفسير فهناك جديد فى التحرك الروسى، وهو جديد يتصادم بقوة مع الكثير من المبادئ التى تصر عليها موسكو كأساس لسياستها فى الشرق الأوسط. هذا الجديد بات يتعلق بالسعى الدءوب لصياغة واقع إقليمى تتحرك فيه موسكو بحرية ولكن دون مراعاة للمبادئ المتعلقة بمحاربة الإرهاب ومنظماته وأفعالهم الشنيعة ضد الأمن والاستقرار الإقليمى.نجد ذلك فى التعاون والتنسيق مع قوى إقليمية أقل ما توصف بأنها قوى متمردة على القانون الدولى، وحامية للإرهاب وتبتز جيرانها، وتعمد إلى إثارة المشكلات والتوتر واغتصاب الحقوق، ولديها ميل جارف إلى نهب موارد الآخرين واحتلال أراضيهم، وفى الأخير تجد مظلة حماية روسية وتنسيق كبير فى تمرير مخططاتها الاستعمارية وابتزاز دول الإقليم. والحالة فى شمال شرق سوريا منذ عملية الاحتلال التركى فى العامين الماضيين كما جسدتهما عمليتا ما يعرف بغصن الزيتون ونبع السلام، واللتين تمتا بتوافق روسى أمريكى غير مسبوق، ثم الجهود المشتركة بشأن تمرير النموذج ذاته فى الاحتلال والوجود العسكرى المباشر لقوة لا علاقة لها بليبيا تعمل على توظيف مرتزقة سوريين ومن جنسيات أخرى، وهم فى الأصل خونة لبلادهم، لغرض خلق وقائع جديدة وفرض واقع احتلال ونهب وغصب فى غرب ليبيا، يُعد تناقضا لا مبرر له، ويتناقض جملة وتفصيلا مع الاعتبارات الواقعية التى عُرفت بها السياسة الروسية فى العقدين الأخيريْن.

نستطيع القول إن هدف موسكو فى إبعاد الإرهابيين من منطقة قريبة منها، أى سوريا،إلى بلد آخر بعيد نسبيا هو ليبيا، بما فى ذلك من تهديد لدول المنطقة ينطوى على مغامرة تضر بالمصداقية الروسية وستجعل الكثير ممن كانوا يعتقدون أن روسيا تحافظ على مبادئها ومصالحها وتراعى مصالح أصدقاء مقربين منها سيعيدون النظر فى الكثير من الأمور التعاونية ذات الطابع الاستراتيجي، وعلى الاقل وضعها فى إطارها الصحيح كتعاون فى مجالات محددة يتم دفع مقابل مادى لها، وليست مقياسا لعلاقة شراكة استراتيجية تقوم على مبادئ وقيم ومصالح مشتركة تمنع انخراط أى من الطرفين فى أعمال تضر مصالح الطرف الآخر.إن إبعاد المرتزقة السوريين والشيشانيين وغيرهم من إدلب السورية قد يحقق مصلحة آنية روسية، ونقلهم عيانا بيانا إلى غرب ليبيا بزعم معاونة حكومة معترف بها دوليا ودون أى اعتراض أو رفض أو إدانة يمثل تطورا خطيرا بكل المقاييس، ويضرب فى الصميم كل ما هو متداول عن حرص موسكو على أصدقائها التاريخيين، والذين سيتضررون من هذه التحولات الميدانية لا محالة.

معروف أن فى العلاقات الدولية مدرستين؛ الأولى الواقعية التى تعتمد مقاييس القوة بكل أشكالها لفرض وقائع ومصالح على حساب الآخرين لاسيما لمن لديه بعض قوة أو فائض منها ويخضع لمصالح ذاتية غير شريفة. والثانية مدرسة التعاون والمصالح المشتركة المبنية على التوازن ومراعاة المبادئ الأخلاقية. والواضح أن تطورات الإقليم الشرق أوسطى لم تعد تعترف بعد سوى بالقوة المطلقة، والأهم هو الاعتماد على الذات وامتلاك قوة ردع حقيقية وتماسك مجتمعى لاشبهة فيه، وعدم الثقة فيمن لا مصداقية لهم، ويسعون إلى هيمنة مطلقة دون وجه حق. وهذا هو الدرس الأهم الذى نخرج به من كل التطورات العاصفة والمجنونة التى تحيط بنا.


لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب

رابط دائم: