سواء كان مرورك بالمكان عابرا أو متعمدا ..فلا بد أن تملأ حواسك كلها روائح تلك المنطقة، إنها ليست فقط «زفارة» الأسماك الطازجة، فهناك أيضا رائحة مياه صرف طافحة وراكدة.. اللافتة الضخمة على المدخل الرئيسى مدون عليها عبارة: «سوق السمك الحضاري» وهو مكان المفترض فيه أن يكون قبلة الباحثين عن وجبة لحوم بيضاء منخفضة السعرات.. محدودة التكلفة، لكن مايحدث عكس ذلك، وهو مادفعنا للقيام بجولة صحفية مصورة بسوق السمك بالمنيب، حاصرنا فيها البائعون بشكاواهم ومظالمهم فضلا عن «وقف الحال» فى البيع والشراء، ونحن بدورنا حاصرنا المسئولين ـ بعد انتهاء جولتنا ـ بكل ما التقطته آذاننا منهم وسجلته أعيننا وعدسات كاميرا زميلنا.
نحو سبعة عشر عاما هى تاريخ مولد هذه السوق التى أرادتها محافظة الجيزة وقتها أن تكون بديلا حضاريا لسوق الأسماك الشهيرة بالجيزة، وسواء كان بائعو السمك أصحاب محال بالسوق أو مجرد باعة يفترشون الأرض ببضاعتهم الطازجة، والتى لم يكن ينتصف النهار دون أن تتخطفها أيدى الزبائن، فقد تم إجبار الجميع على الرحيل من الجيزة إلى المنيب، وحسب كلام ممدوح مهنا : كان لدينا زبائن من المشاهير والمطربين الشعبيين، وكان الزبون يأتى إلينا من مناطق فيصل والهرم والمنيل والدقي، و بعد عملية النقل قالوا إنهم لن يتخلوا عن الشراء منا وظلوا لفترة يصرون على التوقف بسياراتهم خارج السوق الجديد لشراء وجبات وكميات ضخمة للعزائم والمناسبات ، ولكن سريعا ما اختفت الزبائن القديمة، وتدريجيا قل الإقبال وتدهور الشراء بصفة عامة مع تدهور حالة السوق ومستوى النظافة، حيث إن قنوات الصرف به ضعيفة جدا وفى حالة انسداد شبه دائم وطفح داخل وخارج السوق، برغم أن سبب النقل كما قيل لنا : «إننا ملوثين للبيئة» فإذا بالسوق تصبح بؤرة للتلوث، على الطريق المؤدى لموقف سيارات الأجرة للمحافظات ولمطلع الدائرى بالمنيب.
ويضيف: نشعر كأننا فى واد ومسئولى الحى فى واد آخر، فمثلا الكهرباء كانت ضعيفة جدا بالسوق فقمنا بأنفسنا بزيادة الجهد، كى يتحمل طاقة الثلاجات المخصصة للثلج ولحفظ الأسماك، ويقول: بالنسبة لى أنا تاجر جملة وقطاعى وحولت نشاطى للأسماك المجمدة، ولولا أن هناك مصادر أخرى للدخل لكنا متنا من الجوع خاصة بعد محاصرة الديون لمعظم البائعين والتجار، فضلا عن تجاهلهم شكاوى غياب الأمن وتكرار السرقات، ولذا أحضرت خفيرا خصوصيا لحراسة الثلاجات والمواتير والبضائع.
الديون والانذارات تحاصر بائعى الاسماك
من خلال جولتنا بين المحال الصغيرة بالسوق أو «الباكيات» كما يطلق عليها البعض لاحظنا أن المديونيات تؤرق معظمهم ليلا ونهارا، وهرع الكثير منهم إلينا حاملا صورا ضوئية من إنذارات وأوراق قضايا متبادلة بينهم وبين محافظة الجيزة وتحديدا حى جنوب، باعتباره الجهة المؤجرة لهذه المحال وفقا لتعاقدات تمت فى 2003 وكانت تقضى بأن إيجار المحل الصغير 100 جنيه والكبير 200، بزيادة سنوية قدرها 10% وذلك لمدة ثلاث سنوات، يجوز التجديد بعدها بموافقة الجهة المؤجرة، وبسؤالهم عن سبب وجود مديونيات، علمنا أن هناك فترة أعقبت ثورة يناير توقف فيها التعامل المادى بين الطرفين فلا الحى طالبهم بالإيجارات ولا البائعون والتجار عرضوا دفعها، ولا العقود التى انتهت تم تجديدها أو النظر فى أمرها، بالاضافة لصدور قرار من وزارة المالية بزيادة قيمة حق الانتفاع إلى 75% مع أى تعاقد جديد، وفجأة حسبما قال لنا كل من رجب حامد وممدوح مهنا فوجئنا بالمطالبات وقد أصبحت أرقاما خيالية بعد إضافة غرامات التأخير، وبدأنا فى إقامة دعاوى قضائية واللجوء للمحاكم للرد على الانذارات، خاصة أن المحامين تشككوا فى رقم إجمالى المطالبات للبعض منا، وبالفعل أقرت المحكمة للبعض بتخفيض المديونية، كما تم اللجوء ـ من ناحية أخرى إلى إدارة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، والتى أقرت جواز الاعفاء من الزيادة السنوية التى تضمنها العقد المبرم بنسبة 10% عن المدة من يناير 2011 حتى نهاية 2014 نظرا للظروف التى مرت بها البلاد من ركود اقتصادي، وكذلك بالنسبة لغرامات التأخيرالتى تم احتسابها على المديونيات عن السنوات السابقة نفسها، كما أفادت الفتوى بأنه لامانع من الإعفاء من نصف المديونية عن الفترة ذاتها، على أن يقوم مستغلو الباكيات بسداد كامل المديونية دفعة واحدة أو جدولتها خلال مدة محددة، وقدموا لنا أوراقا تفيد مناقشة الشئون القانونية بالمحافظة للمطالب وللفتوي، والتأشير لحى جنوب الجيزة بالموافقة عليها وتنفيذها.
ومع ذلك يكمل البائعون، يقول حامد: «اتحبست وبعت دهب مراتى»، وتقول: سيدة شحاتة «أم هشام» كما ينادونها بالسوق: «عليا للحكومة 18 ألف جنيه وأنا أرملة مسئولة عن تربية أولاد والإنذارات والمحضرون بيطاردونى ليل ونهار، وحاولت أغير النشاط وأبيع فاكهة مثلا لأن بيع السمك فى السوق مابقاش يفتح بيت، قالولى ممنوع»، وتضيف وكأنها تحدث نفسها: «حتى لو غيرنا النشاط الديون هتفضل ملاحقانا برضه أدينا بنعمل جمعيات وربنا يقوينا على السداد» وعلى باكية سمك أخرى وقفت «أم ربيع» سيدة طاعنة فى السن تنادى بصوتها المبحوح على أنواع شتى من الأسماك وقالت لى كنت أبيع السمك فى الجيزة ولكنهم نقلونا للمنيب وقد كان الإيجار 110 جنيهات شهريا وارتفع الى 550 جنيها ومع هذا الارتفاع المفاجئ عجزت عن الدفع حتى تراكمت الديون لتصل الى 50 ألف جنيه فمن أين لى بهذا المبلغ؟».
خوف من السرقات
ليست كل الشكاوى مديونيات وقلة نظافة المكان، وإنما غياب الأمن كان شكوى متكررة على لسان الجميع: «بيتسرق منا حاجات كتير بالليل بينزل عيال من ورا قضبان المترو الذى يمر خلف أحد جانبى السوق، عن طريق القفز فوق السطح والتسلل من فتحات السقف «الجمالون» إلى داخل المحل فيسرقون الموازين ومواتير المياه والأسماك المتبقية بالثلاجات، وكذلك من فتحات الشبابيك التى أصر أحدهم أن يرينا كيف أغلقها بقوالب الطوب الأحمر!».
التخوف من المبالغة فى القيمة الإيجارية مع التعاقدات الجديدة كان أيضا مسيطرا على الجميع، يقول أحمد أبو الروس: سمعنا أنهم هيوصلوا الإيجارات لـ 3000 جنيه بعد ما كنت مأجر بـ 200 بس، ثم يطلق تنهيدة حسرة قائلا: «كان عندى محل تمليك بسوق الجيزة زمان، شمعولى المحل وجابونى هنا، ولو ضيقوا علينا أكتر من كده هنسيب المحلات ونقعد فى الشارع بـ «قروانة» واللا «طشت» نحط فيهم شوية السمك ونبيع من غير مصاريف ولا غرامات ولا سرقات» ويطالب بأن يتم معاملتهم مثلما تم مع بائعى وتجار سوق السمك بامبابة ومحال الجزارة بالمدبح، حيث الإيجارات معقولة، وتم تمليك المحال لمن أراد.
عبد الباسط محمود يقول: ماعنديش ديون الحمد لله مسددين، بس المشكلة لو رفعوا الإيجارات تانى مش هنقدر نكمل، وأى حد ممكن ييجى يراقب حركة البيع ضعيفة جدا ازاي! والله فى 28 محل قفلوا وفى تاجر سمك راح اشتغل على توك توك عشان يقدر يأكل عياله ويسد جزءا من ديونه.
لم يمض وقت طويل بعد أن غادرنا مقر سوق السمك بالمنيب حتى كنا جالسين فى مكتب المهندس تيسير عبد الفتاح رئيس حى جنوب الجيزة الذى يحسب له ترحيبه واستجابته السريعة للمقابلة رغم علمه بأننا سنكيل له ـ بصفته وليس بشخصه طبعا ــ حفنة من الاتهامات، والمفاجأة أنه اعترف بوجود مشكلات مزمنة فى هذا المكان، بل صارحنا بأن موقع السوق ـ حسب رأيه ـ لم يكن موفقا من الأساس وذلك لأن السمك سلعة ذات طبيعة خاصة من حيث الرائحة والمخلفات كرءوس السمك والأحشاء، والتى يتعامل معها التجار والبائعون بطريقة تتسبب فى انسداد قنوات الصرف المكشوف داخل السوق، وبالتالى حدوث طفح مستمر، ويقول: كان الشفاط يأتى يوميا للعمل أكثر من ساعتين كى تعود الأمور إلى طبيعتها،وذلك قبل أن ننفذ أخيرا بيارات صرف صحى جديدة لحماية الشارع الرئيسى من الطفح المتكرر الناتج عن مصارف السوق وما تحمله من مخلفات، وألقى بدوره بجزء كبير من اللوم كذلك على البائعين، وتسببهم فى إلغاء مقترح لتطوير السوق بالكامل فى عام 2012 والذى كان سيتم بمنحة من الاتحاد الأوروبى «JIZ» بقيمة مليون جنيه،وذلك بسبب عدم رغبتهم فى إخلاء المحال والانتقال المؤقت لمكان آخر حتى يتم التطوير الشامل للسوق خشية عدم عودتهم مرة اخرى وبالطبع ألغيت المنحة، ولكن لحسن الحظ أن هناك وعودا بعودة المنحة من جديد خلال العام الحالى بمخطط تطويرى شامل للسوق والمحال وإنشاء شبكة صرف صحى بداخلها.
وبالنسبة لمشكلة المديونيات المتأخرة على تجار سوق السمك فيقول: لقد بدأت قبل الثورة منذ عام 2008 حيث امتنع التجار عن سداد الإيجارات وتم عمل إنذارات أعقبها حجز ادارى لهم وقد استجابت الدولة لشكاواهم، حيث وافق محافظ الجيزة ووزير المالية على إلغاء غرامة التأخير وتم جدولة باقى المتأخرات التى بلغت 3٫5 مليون جنيه وقام بعض التجار بدفع المتأخرات فى حين رفض البعض الآخر، وقد تم سحب 11 باكية وتم عرضها فى المزاد العلنى وتم تأجير 5 باكيات منها، وقد تم تسديد 2,5 مليون جنيه وباق مليون و300 ألف جنيه.
أما الزيادة التى أقرتها وزارة المالية وهى 75% كحق انتفاع لمرة واحدة فقط على التعاقد وليست سنويا، فى حين أن الزيادة السنوية التى يتضمنها العقد هى 10% فقط، أما بالنسبة للسرقات وغياب الأمن فالعقد المبرم بين الحى والسوق ينص على أن يدفع المستأجر اشتراكا نظير تولى شركة للأمن حراسة السوق لكنهم رفضوا دفع هذا الاشتراك، وقد خاطبنا وزارة المالية ومحافظة الجيزة لتركيب عدادات مياه وكهرباء لكل محل بالسوق للقضاء على مشكلة إهدار المياه والكهرباء التى يتحملها الحى ضمن القيمة الإيجارية.
وبالنسبة لرفع القيمة الإيجارية الى 1500 جنيه أوضح المهندس تيسير ان لجنة لإعادة تقييم الإيجارات بمحافظة الجيزة هى التى قررت الزيادات، واستجابة لمطالب البائعين وتقديرا لحالة الركود التى تعانيها السوق، فسوف أرفع مذكرة لمحافظ الجيزة لرفع هذا الظلم عن تجار سوق السمك وإعادة القيمة الإيجارية القديمة. وقال إن التطوير لن يقتصر على السوق وإنما المنطقة بأكملها يجرى بها حاليا تطوير لشارع ربيع الجيزى بداية من مدرسة أبو الهول بميدان الجيزة حتى ميدان المنيب مرورا بمنطقة مجمع الأسواق بطول 5 كيلو مترات - ذهابا وإيابا ــ بتكلفة 13 مليون جنيه.
وفى الختام نتمنى ألا تغيب الأجهزة المعنية عن متابعة نبض الشارع ومشكلات الأسواق، وأن نجد تنفيذاً للوعود قريباً، وأن نعود لزيارة السوق من جديد فنجدها قد أصبحت بالفعل «حضارية» ومكاناً لائقاً ببيع السلع الغذائية.
رابط دائم: