فى ليلة عيد الميلاد المجيد، فى الكاتدرائية المصرية الجديدة فى العاصمة الإدارية، تساءل الرئيس عبد الفتاح السيسى موجها حديثه للمصريين، لماذا أنتم قلقون؟ كان السؤال استنكاريا، بقدر ما كان مؤكدا أن القلق ليس واجبا مادام المصريون متحدين، أو يدا واحدة كما أصر الجمهور. كانت المناسبة عيدا، وفيها من ضياء المكان وما فيه من بهاء الكثير، ولكن الوقت مهما كان الحاضر ساعتها لم يمنع ذلك الإحساس الذى انتاب كثيرا من المصريين خلال أسبوع ونصف الأسبوع من الأحداث المتوالية فى البيئة الإقليمية للدولة، حيث بدا أن حربا وحروبا على وشك الاندلاع فى الشرق الأوسط الذى أعيته الحروب والأزمات، وبعد عقد كامل من الأحداث الجسام. ما حدث هو أن مصر واجهت موقفين إقليميين بالغى الأهمية: أولهما موافقة البرلمان التركى على السماح للرئيس رجب طيب أردوغان بإرسال قوات عسكرية لمساندة حكومة فايز السراج فى طرابلس. وثانيهما قيام الولايات المتحدة باغتيال قاسم سليمانى رئيس كتائب القدس بالحرس الثورى الإيرانى وأبو المهدى المهندس رئيس كتائب حزب الله العراقية ونائب رئيس قوات الحشد الشعبى الشيعية العراقية، والمشرف العام على توابع الحكومة الإيرانية فى العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة. كلا الموقفين كانا باعثين للقلق لأنهما يهددان المصالح المصرية العليا المصرية من زاويتين:
الأولى: عامة وهى أنه بعد خمس سنوات من البناء والإصلاح الاقتصادى الذى بدأت مصر فى حصد نتائجه الإيجابية، فإن ما تسعى إليه مصر خلال العقد المقبل من تحقيق رؤية 2030 سوف تكون مهددة بمناخ إقليمى غير مستقر يحد من الاستثمارات الأجنبية، ويقلق الاستثمارات الخاصة المحلية؛ وفوق ذلك يجعل الصعود الحالى فى مجال السياحة مهددا.
والثانية: أكثر تحديدا لأن نشوب حرب كبرى بين إيران والولايات المتحدة سوف يهدد بشدة حلفاء مصر الرئيسيين فى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة البحرين والكويت، فضلا عن نتائج سلبية كبيرة على العراق والأردن. الأخطر أن تقوم تركيا بوضع قوات كثيفة فى الشمال الغربى لليبيا تكون حاميا لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية الأخرى. مثل ذلك سوف يكون مصدرا للتهديد المباشر لمصر، وأمن منطقة شرق البحر المتوسط التى حاولت مصر ونجحت فى إقامة منتدى تعاونى يشمل مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا ويدور حول تصنيع وتصدير استغلال الغاز والنفط. والحقيقة أن القلق المصرى لم يكن خشية من غياب الوحدة الوطنية، وإنما من حدوث نكسة للجهود الوطنية التى تبنى فى الداخل، وتسعى بإصرار لتحقيق الاستقرار والتعاون فى الخارج، وكلاهما متكاملان. وفى عام 1967نشر توفيق الحكيم روايته المسرحية «بنك القلق» معبرا فيها عن قلقه من الأحوال فى الداخل المصري، وربما كان يستشعر قلة استعدادها للخطر القادم. أيامها لم يستمع الكثيرون، وربما لم يهتم أكثر، بتحذير الأديب النابه وغيره من أصحاب الرؤية البعيدة، فساعتها كان الوعى غائبا، ولم يبق إلا انتظار المحتوم الذى دفعت فيه البلاد ثمنا كبيرا مازالت فواتيره تدفع حتى الآن. القلق المصرى الحالى هو علامة من علامات النضج الذى جاء ليس فقط بالاستفادة من الدرس التاريخي، وإنما لأن هناك الكثير الآن الذى يمكن الخوف عليه. ما تعيشه مصر الآن ربما يكون آخر الفرص التى تستطيع فيها مصر استكمال مسيرتها مع المدنية والحداثة بعد قرنين من بداية محمد على الكبير، والتى تلتها محاولات لبعث الروح فيها، وربما سارت البلاد خطوات وإذا بها تواجه إخفاقات تعيدها مرة أخرى إلى حيث كانت. كان الإخفاق كثيرا من النخبة سواء كانت أجنبية كما كانت فى معظم القرن التاسع عشر، أو مصرية كما كان الحال فى معظم القرن العشرين؛ ولكنها كانت فى أحوال كثيرة كانت نتيجة الظروف الخارجية دوليا أو إقليميا عندما احتلت انجلترا مصر، وعندما قامت الحربان العالميتان الأولى والثانية، وعندما قامت إسرائيل. هذه الظروف إما أنها أصابت النهضة الداخلية بنكسة الاحتلال، إنجليزيا كان أو إسرائيليا، أو أنها خلقت ظروفا معاكسة لعملية التنمية.
القلق هذه المرة كان خوفا من تهديد حالة الكمون الاستراتيجى التى تجعل مصر صافية التركيز على بنائها الداخلى وحماية حدودها المباشرة، والدفاع عن مصالحها العليا التى من أجلها التى شملت فيها عملية التحديث للقوات المسلحة أيضا. لم يكن القلق على الوحدة الوطنية وإنما نتيجتها لأن الوحدة الوطنية هى حالة تنتج عن الاستثمار فيها باحترام الآخر، ومراعاة عقائده، والسعى للمساواة معه، وهى حالة من التنمية المستدامة، و المتصاعدة بالنمو الذى يليق بأمة محترمة. وفى كلتا الحالتين فإن الخوف من الاستدراج، والتورط، والظروف المعاكسة، هو نوع من الوعى الإيجابى الذى لعله كان تأثيره إيجابيا على من اتخذ القرار. فرغم الحذر، والرسائل الدبلوماسية والسياسية، فإن حضور القوة العسكرية المصرية فى كليهما كان واضحا لمن يرى ومن يسمع. وبعد أسبوعين من نشوب الأزمتين فإن كليهما أخذ طريقه إلى التهدئة، وربما خط أول الخطوط فى الحل. فى هذه العملية عبرت مصر أيضا عن قدراتها فى التعامل والسعى نحو تحالف دبلوماسى عريض يرفض الحرب كحل لمشكلات الشرق الأوسط ومعضلاته. شمل هذا التحالف دولا عربية بعضها سعى فى نفس الاتجاه مثل السعودية والإمارات، وبعضها الآخر كان واضحا فى رفضه مثل تونس والجزائر أو يكون ضمن تحالف أو ائتلاف تدمير ليبيا. التعامل مع القوى العظمى - الولايات المتحدة وروسيا والصين - فى هذا الشأن كان ناصحا ومحذرا حصيفا فى كل الأحوال، فكان التوافق مع الصين دافعا للقدرة الدبلوماسية، وكان تأكيد الحل السياسى للأزمات كافيا لطهران وواشنطن لكيلا تنتهى الأمور إلى المواجهة، وحتى تفتح أفقا لاستئناف المفاوضات النووية مرة أخري؛ أما روسيا فكانت جزءا من حل أزمة ليبيا وفتح الباب لوقف إطلاق النار وفتح المفاوضات. كل ذلك لا يعنى أن أزمات الشرق الأوسط قد انتهت، أو أن القلق المصرى الإيجابى سوف يذهب بعيدا، فلا تزال أحوال المنطقة صعبة، وعلينا أن نبحر فيها وسط أمواج عالية وأعاصير مرعبة.
لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد رابط دائم: