تبدو الشواهد كلها بأن لا أحد يرغب فى حرب مباشرة بين واشنطن وطهران فيما عدا إسرائيل، وبالرغم من اغتيال قاسم سليمانى الرمز الإيرانى الأبرز، والاعتداء على السفارة الامريكية فى بغداد بعد 80 هجمة لطهران وأذرعها، إلا أن الطرفين امتنعا عن الإنزلاق فى مواجهة مباشرة. وفى المقابل قد تستمر الحرب بالوكالة، لكنها سوف تمتد إلى دول الخليج. ولقد ظهر واضحا أن واشنطن لا ترغب فى الدخول بأجواء حرب، وهناك رئيس لا يرغب فى دفع فاتورة حرب مكلفة فى الشرق الأوسط . وفى المقابل أثبت قادة طهران قدرة هائلة على كبح جماح عواطفهم مقابل الحفاظ على النظام الإيراني، وإن هاجس إيران الأساسي، تصعيداً وتهدئة، ليس المواجهة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، بل نيل الاعتراف منهما بمكانة إيران الإقليمية وسيادتها الوطنية، وأظهر اية الله خامنئى مرشد الثورة و الرئيس الايرانى حسن روحانى ووزير خارجيته جواد ظريف كيفية ايجاد المخارج من المواقف الصعبة، والبناء على عناصر القوّة التى تحققت بشق الأنفس من إمكانات عسكرية، ونفوذ إقليمي، وقدرة على التخريب فى المنطقة، وإيذاء الخصوم والأعداء، وإحباط مخططاتهم، والاستثمار فى العمليات الإرهابية من خطف طائرات ورهائن ثم المساومة على الإفراج عنهم، ولقد رأينا كيف تمكنت طهران من قلب الطاولة، واستغلال مقتل سليمانى لتوحيد الجبهة الداخلية، وتحريض أنصارها فى العراق للمطالبة برحيل القوات الامريكية، وبينما تبدو نتائج اللعبة الدموية مجرد نقاط متناثرة هنا وهناك، ولم يتمكن طرف من توجيه ضربة قاضية للآخر، فأغلب الظن أن تغيير النظام الإيراني، وإنهاء الوجود الأمريكى فى المنطقة تبدو اهدافا بعيدة المنال. وفى ضوء ذلك ترى ما هو القادم، وما الذى يفرمل الطرفين من الدخول فى معركة أخيرة فاصلة؟.
00 البداية مع المحلل السياسى الروسى ألكسندر نازاروف الذى يرى أننا سنرى حرب طائرات من دون طيار، وحرب أعصاب، سيحاول فيها كلا الجانبين إلحاق أكبر قدر من الضرر بالعدو عن طريق هجمات مجهولة، وسيحاول الطرفان الخداع، وبشكل عام، ستكون حرب الكلمات أكثر ضراوة من حرب الأفعال. فبالنسبة لإيران، فإن حربا شاملة مباشرة مع الولايات المتحدة تعنى تغيير النظام، أو اندلاع حرب أهلية فى البلاد. ولكن سياسة طهران ليست انتحاريّة ، وهناك تعاون سرّى وعلنى مع واشنطن وتل أبيب ، ففى غمرة الشعارات الثورية بعد الثورة الاسلامية مثل إزالة إسرائيل من الوجود والشيطان الأكبر، حصل تنسيق سريّ بين الدول الثلاث، وحصلت طهران على شحنات أسلحة منهما أثناء حربها مع العراق. وساعدت فى الغزو الأمريكى لأفغانستان والعراق، وحافظت طهران على قنوات اتصالها مع واشنطن رغم تغير الموقف لاحقاً حين أدركت أنها باتت محاطة بالجنود الأمريكيين فى العراق وأفغانستان.
.. وفى المقابل الولايات المتحدة ليست مهتمة بحرب مباشرة مع إيران نظرا لقدرة طهران على توجيه ضربة هائلة للاقتصاد العالمي، وتدمير جزء كبير من الإنتاج العالمى للنفط لفترة طويلة. وذلك فى وقت يتباطأ فيه نمو الاقتصاد العالمي، ومعاناة بعض الدول الغربية من الركود، ودول الخليج ليست مستعدة لتحمل عبء الحرب دون الولايات المتحدة، لأنها ستخسر الكثير. وتراهن واشنطن أن تضعف الاحتجاجات المعيشية والنفوذ الإيرانى فى العراق ولبنان، وأن تزداد الفوضى بهما. وأن يفضى الوضع الاقتصادى المتأزم فى ايران إلى احتجاجات عنيفة، ومع فرض عقوبات جديدة ربما يزداد الوضع الاقتصادى سوءا. وربما تضطر إيران من الناحية النفسية، للقيام بخطوات متقدمة نحو المعركة الأخيرة. وإذا استمرت الولايات المتحدة فى الضغط على إيران وخنقها بحلقات ضيقة من العقوبات الاقتصادية، وزعزعة استقرار حلفائها، فمن الممكن أن يتمكنوا من زعزعة الاستقرار فى إيران نفسها بعد عدد من السنوات.
..والآن ما الذى نشاهده؟ .. من الواضح أن الإيرانيين يلعبون لعبة شطرنج، ويلعب الأمريكيون لعبة الطاولة عندما يتعلق الأمر بالحرب، والاستراتيجية العسكرية وإدارة الصراع، وبعد أن تأثرت إيران بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية القاسية واليد العسكرية الضعيفة ، أتقنت فن الحرب غير المتكافئة والعمليات المعاكسة بعناية وكذلك أعمال العنف السياسي، وهى صيغة لم تتوصل إليها الولايات المتحدة بعد 40 سنة من الثورة الإيرانية . ومنذ مايو 2019 نفذت ميليشيات عراقية مدعومة من إيران نحو 90 هجومًا على أهداف أمريكية فى العراق. ولم تكن الهجمات تهدف فقط إلى إجبار الولايات المتحدة على تصعيد التوترات وإثارة رد عسكرى على أمل أن يؤدى ذلك إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، ولكن أيضًا خلق بيئة مواتية لانسحاب القوات الأمريكية من العراق بناءً على طلب من الحكومة العراقية أو الضغط الشعبي. وتأمل إيران أن يؤدى الخوف من تصعيد الأفعال المتبادلة الذى قد يخرج عن السيطرة إلى تنشيط الجهود لإعادة الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية إلى طاولة المفاوضات. وللقيام بذلك، سيتعين على طرف ثالث يتمتع بمصداقية من الجانبين، مثل سلطنة عُمان، أن يسد فجوة فى شروط إحياء المفاوضات الرامية إلى إعادة تطبيق الاتفاق النووي، والذى اتسع بمقتل سليماني. وفى الوقت نفسه يجب أن يتضمن إحياء الاتفاقية شروطًا صعبة تشمل برنامج إيران للصواريخ الباليستية المثيرة للجدل، ودعم الوكلاء فى الشرق الأوسط، وهو جوهر استراتيجية ايران الدفاعية، وهذا جوهر المشكلة التى تواجه واشنطن وطهران، وايا من الأطراف التى حاولت الوساطة بينهما، فالمسافة متسعة فطهران تطلب تقاسم النفوذ فى المنطقة.
..ويبقى أن الفترة المقبلة سوف تشهد سخونة كبيرة فى الحرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران بشكل كبير فى ساحات العراق ولبنان وسوريا واليمن والأراضى الفلسطينية المحتلة وربما إسرائيل، وبالطبع سيصبح العراق ساحة المعركة الرئيسية، لكن احتمال حدوث هجمات مجهولة على أهداف فى السعودية والامارات والكويت يزداد بشكل واضح. كما يزداد احتمال وقوع نفس الهجمات المجهولة على أهداف إيرانية انطلاقا من أراضى العراق نفسه، ولكن على خلفية الحظر النفطى المفروض على إيران، فإن ثقل الخسائر من هذه الهجمات المحتملة لإيران أقل بكثير من ثقل خسائر هجمات مماثلة على دول الخليج. وأغلب الظن أن المنطقة ستظل على صفيح ساخن حتى نهاية الانتخابات الامريكية ومعرفة مصير ترامب.
لمزيد من مقالات محمد صابرين رابط دائم: