فى فجر يوم دافئ استيقظ يس يقظة غير كاملة، وفى تلك اللحظة بين النوم واليقظة، تصوره فى مخيلته قادما عند مجمع البحرين، وبينهما شعاع خافت يأتى من المشرق يزداد فى الأفق فوق صفحة الماء. دقق النظر فرأى وجها له قسمات خاصة لا يملك مفاتيح لغة فنان لكى يصفه خاصة أن تلك القسمات تصدر ضياء روحيا يحبو على أرض خضراء. ووجد فى عقله نداء غامضا لا يقاوم لكى يسأله عن موضوعات متجددة فى كل العصور وتحتاج إلى مزيد من التوضيح عند عقول ضلت الطريق!
وهنا عرفه يس بنفسه قائلا: لقد تعلمت من مناهل شتى من أقصى اليمين إلى اليسار، وأخذت من علماء ومراجع علمية عديدة ومتباعدة لدرجة التضارب، وسمعت لأفكارهم تلك التى تعارض بعضها بعضا وترفض أفكار المفكرين الآخرين الذين أخذت عنهم أيضا، لكننى أبدا لم أكن أسيرا لأى منهم فقد وُلدت حرا وحرصت أن أكون حرا فى عقلى وفى طريقة تفكيري، ولقد نجوت من كل معارك الأسر إلا لرب الوجود. لكننى لم أجد مثلك من المعلمين أيها العبد الصالح. وعلى الرغم من أن الجميع يعتقدون أن ما يميزك هو العلم اللدني، وهو العلم من لدن الله، ويعتقدون دوما أن العلم اللدنى هو علم روحانى غير عقلاني؛ فإنى أتصور على خلافهم أن العلم اللدنى علم عقلى يترعرع فى بيئة روحانية، ولا أدرى لماذا يعدون العقلانى مخالفا للروحي، وكأنهم يعدون العقل حقلا معرفيا مباينا لحقل الروح. ولا أعلم لماذا يصرون على أن العقلانى غير روحاني، مع أن العقل من لدن الله!
وأضاف يس: الغريب ـ أيها العبد الصالح ـ أن الجميع عدَّ إجاباتك على أسئلة موسى النبى عليه السلام، إجابات تعبر عن علم روحانى غير عقلاني، أما أنا فأراها إجابات عقلانية لأنها تفسر المواقف والظواهر بالأسباب وعلى أساس منطقي، وما الفرق بين فهم موسى الأول لتلك الظواهر وتفسيرك لها، سوى فرق بين الذين يفهمون الظواهر بطريقة حسية مباشرة دون معرفة أسبابها وحقيقتها ودوافعها ومقاصدها، وأولئك الذين لا يحكمون على الأمور إلا بعد معرفة أسبابها وحقيقتها ودوافعها ومقاصدها، ما هو سوى فرق بين الذين يحكمون على الأمور بالاستناد إلى الجزء، وأولئك الذين يحكمون على الجزء فى إطار كلي.
إن الفهم الجزئى المباشر السريع هو : (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّى عُذْرًا .فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) (الكهف: 71- 77).
هنا قال العبد الصالح : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا . وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف: 79 ـ 82).
رد يس قائلا: خرقتها لتعيبها مؤقتا حفاظا على حقوق وملكية المساكين، لكن لم تغرقها ولم تدمرها. والغلام كان طاغيا إرهابيا ضد والديه؛ ومن ثمَّ كان ضد مجتمعه المؤمن المستقر، أما إقامة الجدار فلا يشترط الحصول على منفعة فردية، بل الأهم هو العطاء من أجل الآخرين. وفى الأحوال الثلاثة تتبدى العقلانية الإيمانية والاجتماعية والاقتصادية، والتى تقوم على تعظيم فكرة حقوق الملكية وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين وملكيتهم سواء كانوا أفرادا أو دولا ، وتعظيم فكرة العدالة الاجتماعية، وتعظيم فكرة الصلاح، ورفض ضغيان الأفراد الذى يولد الإرهاب، وتعظيم فكرة البناء، وتعظيم فكرة التنمية، وكلها تتكون منها الفكرة الأعم، أعنى المصلحة العامة.
قال العبد الصالح: ألا تلاحظ أنك قلت فى البداية أنك سوف تسألني، وحتى الآن لم تسأل أى سؤال، بل تقول إجابات!
فقال يس :بل أصنع أرضية مشتركة بيننا ومفاهيم معرفية واضحة فى طريقة النظر إلى الأمور.
قال العبد الصالح : لا تزال تجيب ولا تسأل!
قال يس: هل تسمح لى أن أسألك فى فجر اليوم التالي؟
قال العبد الصالح: نعم.. إنه الوقت المناسب عندما يبدأ شعاع خافت يأتى من المشرق يزداد فى الأفق فوق صفحة الماء.
قال يس: إذن اتفقنا على الزمان، فأين المكان؟
قال العبد الصالح: ابحث فى الفجر عند مجمع العقل والروح وسوف تجدني!
لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت رابط دائم: