-
«مدونة أخلاقية» للتفاعل مع الأبناء لتجنب تحديات التحول الرقمى
في ظل سيطرة التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي علي مناحي الحياة المختلفة، ودخول عصر التحول الرقمي، الذي أضفي الكثير من الحرية غير المقننة، سواء في النقاش أو تبادل الآراء والأفكار مع مختلف الأطياف، تقف الأسر حائرة أمام طوفان تنوع تلك المواقع، ما بين القيم الموروثة والتحديات المفروضة، خاصة أنه لا يخفى على أحد ما لها من مخاطر، كما لها من إيجابيات. علماء الدين والخبراء والمتخصصون، أكدوا أهمية التفاعل الإيجابي مع هذه الثورة التكنولوجية المعلوماتية للتعاطي مع الواقع ومستجداته، مع تجنب المخاطر والسلبيات، لتلافي آثارها المدمرة، وأشاروا إلي أن الأسرة تعد حائط الصد الأول لتلك المخاطر، باعتبارها المداد الأولى لتربية النشء.
يقول الدكتور نبيل السمالوطى أستاذ علم الاجتماع جامعة الأزهر إن طرق أبواب العصر الرقمي أصبح واقعا لا يمكن تجاهله، وصارت وسائل التواصل الاجتماعى من أهم الوسائل لإقامة علاقات اجتماعية بين الأفراد من خلال «الفيس بوك» وغيرها، وأشار إلي أنها سلاح ذو حدين، الأول إيجابى كسهولة التواصل واختزال المسافات، وسرعة بث المعلومة والبحث العلمى والترفية ومتابعة الأخبار، وغيرها.
أما السلبيات فأخطرها اختراق الخصوصية ونشر الشائعات والفتن واستقطاب الشباب نحو التطرف والارهاب، واستهداف الأطفال بالألعاب المميتة كالحوت الأزرق وغيرها. إلي العلاقات المشبوهة بين الجنسين وإدمان الأزواج للإنترنت،والخرس الزوجي مما أدي للإنهيار الأسرى وخراب البيوت، فضلا عن عمليات النصب التي تتم عبر شبكة الإنترنت نتيجة جهل أو قلة خبرة البعض.
أما الدكتور السعيد محمد علي من علماء الأزهر والأوقاف، فقد حذر من ارتياد المواقع التى تساعد على الانحلال الأخلاقى والإباحية، والتى تسببت فى قتل الحياء عند الصغار والكبار، رجالا ونساء، كما حذر من التعامل العشوائي والفضول في ارتياد مواقع مجهولة غير موثوق بها، والانسياق وراء إعلانات المواقع والبرامج التي تدعي المجانية، فالمجانية في كثير من الأحيان ـ كما أفاد المتخصصون ـ تعني جلب الفيروسات الضارة وسهولة التجسس واختراق الخصوصية.. الأمر الذي يستلزم التحصين بالثقافة التقنية المناسبة والتوعية اللازمة لتجنب هذه المخاطر.
وأكد الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، من علماء الأزهر وأئمة الأوقاف، الدور المهم والرئيسي لمؤسسات الدولة وللمجتمع المدني للتصدي لتحديات التحول الرقمي بالحِفاظ على الهُوية والخصوصية الحضارية ونموذجنا المعرفي وقيمنا الدينية ومنظومتنا الأخلاقية وأمننا المعلوماتي، مشيرا إلي أن الأسرة تلعب دورا مهما كحائط صد أول في هذا الشأن، فهي القائمة على التربية الأولية للأبناء، وهي التي تغرس أكثر من 80% من قيمهم ومبادئهم والتي تستمر معهم إلى نهاية حياتهم، لذلك تبدأ الأسرة دورها في بناء جدار الحماية لأفرادها من خلال القدوة الصالحة، التي يجب أن تتمثل في الأب والأم، وغرس القيم الدينية والمجتمعية لموروثنا الديني والأخلاقي، وكذلك التوعية والمتابعة والتوجيه والنصح، كما يجب أن تعمل الأسرة على تثقيف أعضائها من خلال الحصول على دورات لكيفية التصفح الآمن على شبكة الإنترنت وكيفية التعامل مع التكنولوجيا الحديثة بشكل إيجابي.
وأوضح أن على الآباء التعامل مع الأبناء من خلال وسائط الاتصال الحديثة، وأن ينشئوا حسابات لهم ليتفاعلوا مع أولادهم كأصدقاء على هذه المواقع الاجتماعية، وألا ينقطعوا عن منجزات واقعهم، لأن هذا يفقدهم الوصول إلى عقول أبنائهم والتعرف على مشكلاتهم والمخاطر المحيطة بهم، كما يجب أن يفتح الآباء قنوات من الحوار مع أفراد أسرهم، وأن يجيدوا ثقافة الاستماع، ويزرعوا الثقة في نفوس أبنائهم، حتى لا نتركهم فريسة على شبكات التواصل ومواقع الإنترنت للأفكار الشاذة والمتطرفة، مع عدم التساهل في نشر الأخبار الخاصة والصور العائلية على شبكات التواصل، فهي كنز لمن يتتبع أخبارهم ومن يريد الوقيعة بهم، وكم من حالات الابتزاز والاحتيال والسرقة والتشهير وقعت نتيجة للتساهل في نشر الأخبار والصور الخاصة.
تقوية الوازع الدينى
وشدد علي أهمية أن تعمل الأسرة علي غرس الوازع الديني والأخلاقي والرقابة الذاتية لدى أفرادها منذ الصغر، لأنه يحصنهم من الاستخدام الخاطئ للمواقع على شبكة الإنترنت، والذي قد يلقي بهم في مواقع تنشر الإباحية والشذوذ والتطرف والإلحاد، وآن يتم التنسيق مع المدرسة للتشاور والتكامل في بناء الطفل وتربيته وتدريبه على التعامل مع هذا العالم الرقمي بأمان وسلامة، كما يجب على الأسرة أن تخصص وقتا للتواصل الحقيقي بين أفرادها بدلا من التواصل خلف الشاشات، لأن هذا يخلق جوا من الحميمية، ويقلل نسبيا من الجمود الذي أصاب العلاقات الاجتماعية، كما يجب أن تراقب الأسرة أي تغيير على سلوك أحد أفرادها، خاصة فى أثناء تجواله على شبكة الإنترنت للتدخل سريعا لمعالجة أي خلل، مع الحرص على التوعية بالسلوكيات التي قد تمثل جرائم يحاسب عليها القانون، وهو ما يعرف بالجرائم الإلكترونية والجرائم المعلوماتية، حتى تحمي أفرادها من الوقوع فيها، وهي بذلك يتكامل دورها مع الإعلام والثقافة والتربية والتعليم في هذا الشأن.
مدونة أخلاقية
ودعا الأزهرى إلي عمل (مدونة أخلاقية)، نلتزم بها جميعا حتى نحفظ أجيالنا القادمة من الذوبان في هذا العالم، ونسير في اتجاهين، الأول البناء الرقمي لحركة المجتمع، والثاني البناء القيمي والأخلاقي لأفراد هذا المجتمع، خاصة أن الذكاء الاصطناعي مخرجاته حتى الآن لا تعرف القيم والأخلاق، بل تدور في فلك المكاسب المادية وخدمة رءوس الأموال والهيمنة بكل أشكالها، لذلك فلا بد أن يتحمل الجميع مسئولياته من أجل الحفاظ على قيمنا الموروثة ومواجهة التحديات التي فرضها هذا المتغير الخطير، مذكرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، ....).
المسئولية المجتمعية
ولفت الدكتور محمد صالح أستاذ علم النفس والتربية الخاصة، إلي أن التربية التقليدية تقلص دورها، وحلت الآن التربية الرقمية في تسارعها وتصارعها، محل كل المؤسسات التربوية والاجتماعية والمجتمعية، لذا ينبغي استثمار إيجابياتها بتغيير زاوية التفكير والبعد عن الرجعية، مع إذكاء الروحانيات في إطار يقظة الضمير نحو مخافة الله باستيعاب مفهوم «إنما يخشي الله من عباده العلماء»، في إطار الاستخدام الأمثل لما وصل إليه العقل البشري من إيجابيات والحرص كل الحرص من السلبيات في إطار حق المعرفة المنطلق من الدائرة الأخلاقية وتدريسها وتغليفها بالحكمة، خاصة بعد ما حدث تشوه وعجز عام في العلاقات وانهيار في الأخلاقيات والمعاملات، وأصبحت الألفة مزيفة، والود رياء وتاهت الحماية الاجتماعية، مما يتطلب ضرورة حماية الأبناء من كابوس يهدد استقرار حياتهم وتعرضهم للخطر، وهنا أصبح من الحتمية بث برامج التكنولوجيا النفسية في الوقاية والتدخل المبكر والحصانة من التقليد الأعمى لأبطال وهميين في ارتكاب مفاهيم العزلة والانطواء والانزواء واتساع الفجوة بين جيل الصغار والكبار.
ولحماية أطفالنا من مخاطر التكنولوجيا، علينا أن ندربهم علي جرأة السؤال، وأن نتحلي بالصدق والتوثيق والعمق في الإجابة، لذا علي الأسر وأساتذة علم النفس والتربية النفسية دور عظيم في نشر ثقافة استثمار الوقت والمسئولية الاجتماعية وتشكيل الوعي العام (معرفة واتجاه وسلوك)، وحتمية مواجهة الخرس الاجتماعي والعزلة التي اخترقت معظم الأسر.
ويضع د. محمد صالح بعض الاستراتيجيات لمواجهة مخاطر التكنولوجيا، تتمثل فى استخدام الوسائل التكنولوجية في إطار المشاركة الجماعية من كل أفراد الأسرة، وإجراء الحوارات البناءة في إطار معايشة الواقع وقيم المجتمع، إضافة الى استثمار الوقت ما بين الممارسات الرياضية والعلمية والروحية بجانبيها الروحاني والترويحي، مع حتمية قيام كل أسرة بدور مجتمعي والإسهام الفعلى في مؤسسات المجتمع المدني ونشر ثقافة التطوع والإيثار.
الإفتاء تتصدي للسلبيات
مواجهة الظواهر السلبية للتكنولوجيا مثل الطلاق والتفكك الأسرى، كان من الأسباب التي دعت دار الإفتاء المصرية إلي إنشاء وحدة الإرشاد الأسرى. وأوضح الدكتور عمرو الوردانى أمين الفتوى، مدير إدارة التدريب بدار الإفتاء، أن هذه الوحدة تعتمد على مجموعة من الخبرات والكفاءات المختلفة التي تشمل الجانب الشرعي، والنفسي، والاجتماعي، والمهاري؛ لتستوعب بذلك التنوع كل جوانب العلاقة الأسرية وما يحيط بها من مشكلات تحتاج إلى تحليل علمي دقيق لفهم الأسباب والدوافع والوصول إلى العلاج المناسب، وتمتد الجلسة من ساعة إلى ساعتين تبعا لحاجة الأطراف وطبيعة الموضوعات المطروحة وأهمية التعمق في العديد من التفاصيل المرتبطة بها.
رابط دائم: