حال كل عمارة يكشف مشكلة اجتماعية تحتاج إلى علاج علمي، فلم تعد المشكلة فى السفارة التى فى العمارة، ولكن فى إدارة هذه العمارة، فكل عمارة بها كارثة تنتظر الانفجار بسبب غياب الإدارة، والإدارة ما هى إلا تنظيم العمل والتعاون المتبادل حتى يعيش السكان فى سلام وأمان، لكن الكل يعزف عن القيام بهذه المسئولية، وتعريض نفسه لاتهامات السكان بالتقصير أو بإهدار الأموال، وينتظر من مغامرين آخرين الاضطلاع بهذه المهمة الانتحارية فى إرضاء مطالب وأوهام الآخرين، الذين ينتظرون منقذا من السماء يتكلون عليه فى حياتهم، ثم يلعنونه إذا لزم الأمر عند وقوع الكارثة، فالإنجاز له ألف أب والفشل يتيم الأب والأم!
إدارة العمارة تبين بجلاء كيف يمكن أن نكون كأفراد ممتازين أخلاقيا ومهنيا، لكننا كجماعات تقوم على الاعتماد المتبادل فاشلون تماما، ويجب أن نعترف جزئيا بالتهمة التى ألقاها علينا فلاسفة الغرب بأننا فاشلون فى حكم أنفسنا، وهى الباب الذى فُتح للاستعمار ومهمة الرجل الأبيض بتمدين الشعوب المتخلفة، وهى حجة واهية بالطبع، لأن هدفها ليس التمدين والتحديث والتقدم، ولكن النهب والاستغلال والاحتقار والإذلال، فقامت ثوراتنا العربية ضد حجة (جول فيري) رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1885، الذى ادعى أن للشعوب المتقدمة حقوقا على الشعوب المنحطة، بأن تتبع لها من أجل أن تتقدم، ولدينا من النخبة المثقفة العديد الذين اقتنعوا بذلك، لانتشال شعوبهم من الانحطاط الإنسانى ليرتقوا فى صفوف الأمم المتقدمة، ولكن الواقع أثبت أن الثورة على الاستعمار ليست ثورة على التقدم، ولكن على الهيمنة والعنصرية والاستغلال وفوق كل ذلك على الاحتقار الإنساني، مما ينفى أى مهمة نبيلة للاستعمار وخرج الشاعر ليقول: أحرام على بلابله الدوح.. حلال للطير من كل جنس! هروب سكان العمارة من تحمل المسئولية يستدعى الاستعمار، وقد يفرحون به أيضا، لأنه يرفع عنهم عبء الإدارة واتخاذ القرار، ويرتاح كاهلهم من النقد والاتهامات، وتجد العمارة من تثور عليه لتعيش دور الضحية! فى حين أن الاعتماد المتبادل الذى نادى به (ابن خلدون) كشرط للعمران بين أيديهم بتنظيم أنفسهم واختيار من يمثلهم ويضعون شروطا فيما بينهم لتنظيم شئونهم وينفذونها بشفافية وعلانية، تمنع القيل والقال، ويقومون بتولى المسئولية بصفة دورية بعد أن تخلى عنها الجميع، وتركت الأمور «سداحا مداحا»، ليفرح الانتهازيون المتهربون من دفع المستحقات التى عليهم، ويولول الشتامون والمنافقون إلى آخر الأمراض الاجتماعية، التى تظهر فى أى اجتماع إنسانى عند غياب التنظيم الإداري.. هنا يصبح الشعار الحقيقى «الشعب يريد النظام» وفى الخارج تم حل المشكلة العقارية بتولى شركات إدارة متخصصة تنظم العلاقة بين السكان والملاك والدولة. هذا الفشل الإدارى الذى يبدأ من العمارة يفرح به الاستعماريون فيعطى لهم الحجة فى التدخل الذى يطمعون فيه، وما التخطيط للهوجات العربية إلا لإثبات أننا نفشل فى حكم أنفسنا، وما كانت الأنظمة العربية تستحق الدفاع عنها، لأخطاء التوريث ولكنها كانت خطوة على طريق انتظام المجتمع العربي، الذى يعج بالأيديولوجيات المتناحرة، فى شكل سياسى حديث، يتمثل فى الدولة، وكما كان لها من سلبيات مستفزة كان لها إيجابيات فى الدفاع عن حقوق ومصالح الشعوب فى وجه الأطماع الاستعمارية الكبري، وبعد انهيارها أصبحنا مطمعا لكل من هب ودب، من أطماع عثمانية وصفوية إيرانية، وحتى وصلنا إلى الأطماع الإثيوبية! وها هى الأحداث حبلى بنذر الحروب بسبب فشل التعاون العربى!
هذه الأطماع ليست وهمية أو اتكالية تلقى بالمسئولية على الآخرين فآخر المؤتمرات الاستعمارية - المعروف بمؤتمر (كامبل) - الذى عقد بلندن 1905 واستمر عامين، كشف بجلاء عن أهداف الدول الاستعمارية الكبري، الذى وجد منطقة شمال إفريقيا وشرق المتوسط منطقة مفككة سياسيا ومتخلفة اقتصاديا، وأن مصلحتهم فى الإبقاء على السلبيتين لمواجهة الأخطار التى يمكن أن تنطلق من هذه المنطقة الغنية والمتخلفة، وأوحى بإنشاء دويلات مصطنعة تابعة لأوروبا، ووجود دولة عازلة لديه (Buffer state) عدوة للشعب العربي، فكان الهدف تقسيم المنطقة، وعدم نقل التكنولوجيا وتحديثها، وإثارة العداوة بين طوائفها، وهو ما يجرى على قدم وساق، وأعتقد أن مصر قيادة وشعبا على وعى بأن الفوضى الخلاقة لن تخلق إلا مزيدا من التخلف والانهيار.. لكن الحل يبدأ من الإدارة، إدارة المجتمع بأسلوب علمى منظم يضع الأيديولوجيات جانبا، وعلى المدى الطويل تتشكل الكتلة التاريخية عند (جرامشي) الفيلسوف الإيطالي، التى تؤمن بالسبل الحديثة والقيم الإنسانية المسالمة فى الإدارة العامة للمجتمع، بشكل تراكمى منظم لا «هوجاتي» موجه من القوى الاستعمارية كافة صفوية وعثمانية وغيرهما. والحل يبدأ من العمارة.. من الاعتماد المتبادل الخلاق من مانفستو التقدم الذى يملأ مجلدات، لا من هوجات الشوارع الممولة!
لمزيد من مقالات ◀ وفاء محمود رابط دائم: