استعرضنا في المقالة السابقة رواية بيت القبطية لأشرف العشماوي كنوع أدبيّ, فتأملنا الوشيجة التي تربطها بما سبقها من نماذج في الموضوع نفسه، وأوجُه التباين الحتمية، نظرا لاختلاف الكاتب واختلاف الزمان. ويبقي أن نتحدث عن العمل من داخله.
بيت القبطية حدوتة عن مأزق ثلاثي, تلخصه عبارة من ثلاث كلمات: امرأة صعيدية قبطية, فكل كلمة من الكلمات الثلاث, كما تحكي الرواية, أزمة, خاصة إذا أضفنا للعبارة كلمة رابعة: فقيرة.
هدي يوسف حبيب امرأة صعيدية قبطية فقيرة, مات أبوها وهي صغيرة, وتزوجت أمها من رجل تعشقه وتكبره في العمر. وسرعان ما أوقعت هدي الكلمة الخامسة التي نسينا أن نضيفها للعبارة، وهي: «جميلة», سرعان ما أوقعت هذه البنت الصعيدية القبطية الفقيرة الجميلة في فخ قبيح: اغتصبها زوج أمها, فزوّجتها أمها لرجل كهل غير متعلم للتخلص من غريمتها وفي الوقت نفسه ستر ابنتها بأي رجل يرضي بها. أمّا الكلمة السادسة «متعلمة» فضاعفت من عذابها بين براثن ذلك الكهل الشرس شبه الأميّ الذي مارس معها اغتصاباً شرعياً لا يختلف في جوهره عما فعله بها زوج الأم. فهدى تلقت تعليماً لا بأس به, وكانت تهوي القراءة والكتابة, حتى تزوجت من رجل لا يكتفي بفظاظته في معاملتها كأنثي, بل يعذبها جسدياً بوسائل يتفنن في وحشيتها, حتي اضطرت ذات ليلة، وهي تدافع عن نفسها، إلي ضربه علي رأسه بما طالته يدها فَهَوي صريعاً, ليبدأ تأزم الأحداث في روايتنا, حين ظنته مات فهربت لتلك القرية من قري بني سويف حيث تدور أحداث الرواية. تلتقي هدي فيها نادر وكيل النيابة المنقول حديثاً من القاهرة, ليواجه أتوناً يغلي مرجله بأحداث طائفية متصاعدة انضمت هُدي لنارها وأضافت بحكايتها لهيباً أججها, خاصة قُرب نهاية الرواية حين اكتشفت هدي, ونحن معها, أن زوجها لم يمت كما ظنت, بل هبط علي القرية كالصاعقة, ليقيم عليها دعوي قضائية, لأن هُدي, التي زوّجتها الكنيسة من واحد من أهل القرية, صارت الآن زوجة رجلين, أحدهما مسلم, وهو خضر زوجها الأول, والآخر مسيحي, فصارت ملعونة من كلتا الطائفتين. أنكرها الجميع, ولم يتعاطف معها سوي نادر وكيل النيابة المكلف بإدانتها وتطبيق أقسي عقوبة عليها! يقتنع القاضي في نهاية المحاكمة أن هُدي لم تكن تعلم أن زوجها لم يمت, فيحكم عليها مع إيقاف التنفيذ. لكنّ حُكم المجتمع, الذي لفظها بكل طوائفه, لم يرأف بها.
إن حكاية هُدي, التي تمثل العمود الفقريّ للرواية, لا تشكل كل ملامحها. فطوال الوقت هناك حقول وبيوت تحترق, وفساد ينقل ملكية تلك البيوت والحقول من شخص لآخر, أو من طائفة لأخري. وهناك عنف يومي, أو شبه يومي, في تلك القرية البائسة, وصُلبان تُرسم علي أبواب بعض بيوتها, ومن بينها باب بيت القبطية صاحبة الحكاية, التي لم تذق الحنان والأمان طوال عمرها إلا في أحضان رزق زوجها الجديد الحنون الذي صرعته مفاجأة ظهور زوج لها, لم يمت كما ظن الجميع, وها هو قد جاء ليهدم سقف ذلك البيت علي رأسيهما.
بيت القبطية عمل فيه كثير من العنف, هو مرآة لما يحدث أحياناً في بعض قُري الصعيد من أحداث نَسَج معها وضفّر بها خيالُ الكاتب المبدع أشرف العشماوي حكاية مثيرة وحزينة أمتعنا بها وأشجانا, وقدّم صورة قاتمة, لكن بلاغتها التعبيرية تطرب عشاق الجمال.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: