ثمة أسئلة شائكة تتصل براهن الثقافة المصرية ومردودها الفعلى بين الجماهير، وقدرتها على تمثيل القوة الناعمة لمصر، والإسهام الفاعل فى مواجهة التطرف، ثلاث حلقات مهمة يجب على وزارة الثقافة أن ترتفع فى تعاملها معها إلى مستوى اللحظة الفارقة التى تحياها الأمة المصرية، وإدراكا للمسئولية الوطنية فى تعزيز الدور الثقافى المصرى فى محيطه العربى والإقليمى، ودعمه للموهوبين فى جميع السياقات، ومجابهة عصابات الجهل، والتصورات الرجعية عن العالم، والتماس مع أهلنا فى مختلف ربوع الدولة. لم نسمع منذ فترة حديثا متصلا بالثقافة فى الدوائر الرسمية، فالثقافة ظلت مهمشة لفترات عديدة، وبدت تعيش بقوة القصور الذاتى من جهة، وبعض تمثيلات القوة الناعمة التى أخذت فى التآكل فى السنوات العشر الأخيرة لظروف معقدة ليس هذا أوان ذكرها من جهة ثانية، وربما كانت التصريحات الأخيرة التى بثتها الصحف والمواقع والقنوات المختلفة بشأن الاجتماع بين الرئيس السيسى ووزيرة الثقافة، بحضور الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء، تمثل إحدى المحاولات الجادة لاستعادة الثقافة ووضعها فى بؤرة الوعى المصرى من جديد، خاصة مع تنامى الحديث عن المواجهة الفكرية للتطرف، وبناء الشخصية المصرية، وتعزيز الهوية الوطنية، والاهتمام بقصور الثقافة ولعبها الدور المأمول فى سياق مركب على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية. وكان السفير بسام راضى، المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية، قد صرح بحسب ما تناقلته الصحف بأن الرئيس أكد أهمية دور الوزارة فى سبيل تحقيق رسالة نشر الثقافة والفنون وترسيخ الهوية المصرية وتعزيز القيم الإيجابية داخل المجتمع، وضرورة إيصال الرسالة الثقافية إلى القرى والنجوع والمناطق الحدودية، بما يسهم بالإيجاب فى استراتيجية الدولة الشاملة لبناء الإنسان المصرى معرفيا وثقافيا. ظلت الثقافة الرسمية تشكو فى الأروقة الجانبية عدم الاهتمام اللائق بها، وعزز ذلك تلك الظروف المعقدة التى مرت بها الدولة فى السنوات العشر الأخيرة، ومن هنا يكتسب اللقاء الأخير وجاهته الخاصة، لأنه يؤكد ما أسميه بالمناخات المواتية، فثمة إعلان واضح للاهتمام بالثقافة ودعمها للقيام بدورها المبتغى، ولذا يجب أن تنتقل الوزارة الآن من خانة الكلام إلى خانة الفعل، ومن حيز الممارسات التقليدية إلى الخيال المبتكر. ولكن.. هل هناك حاجة إلى خيال جديد فى هذا السياق؟ نعم ثمة حاجة إلى خيال جديد فى النظر إلى الثقافة ومعناها وجوهرها، وعلاقتها بالبنى السياسية والاجتماعية الأخرى، ومدى قدرتها على طرح الخطاب العام للدولة الوطنية، والتكريس للمعنى الإنسانى داخل المجتمع المصرى، وطرح ثقافة التسامح، والانحياز إلى قيم التنوير والحداثة ومجابهة قيم التخلف والظلام والرجعية. نحن بحاجة إلى تجديد الأدوات التى تمكننا من خلق هذا الخيال المنشود، بدءا من جعل الثقافة حالة مجتمعية تتجاوز فيها الوزارة توجهها صوب قطاعات من المثقفين إلى الجمهور العام، الذى يجب أن يوضع فى الحسبان فى عمليتى الإنتاج والتوزيع الثقافى، كما يجب تفعيل بروتوكولات التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات المعنية بتشكيل العقل العام ومن أبرزها وزارتا التعليم والتعليم العالى، فلا بد من وصل التعليم بالثقافة، لينتقل أبناؤنا من الطلاب من خانة الحفظ إلى التأمل النقدى والتفكير الإبداعى.
ويعنى تجديد الخيال القدرة على إقامة عالم جديد ابن لاشتراطات عقلانية وتصورات معرفية مغايرة عن السائد، فليس هناك تسييد للماضى وأنماط تفكيره داخل النسق الجديد، ولا مكان للأفكار الرجعية المعادية لكل القيم الطليعية، وليس ثمة احتكار للهوية وطبعها بطابع أحادى مغلق، ينتمى لثقافة صحراوية ماضوية الروح والمعنى، وإنما تفعيل خصب لمرتكزات التنوع الخلاق للهوية الوطنية بتراكماتها الحضارية المختلفة وجذورها المتعددة. وسيبدو ذلك جميعه غريبا ما بقيت ثقافة الكرنفال وحدها تهيمن على الأداء العام للثقافة الرسمية، فالمعنى يجب أن يسبق الكرنفال، ويمكن للكرنفال أن يسهم فحسب فى توسيع دوائر التلقى للمعنى، والمعنى هنا يرتبط بوجود تصور محدد المعالم لدى وزارة الثقافة وهيئاتها المختلفة للمشاركة الفاعلة فى صياغة الوجدان العام وتعزيز القدرة المجتمعية على الدفاع عن العقل فى مواجهة الظلام، وهذا يتطلب من الوزارة جعل التنوير مشروعها الأساسى، وخطابها الذى ترتكن إليه وتذهب به إلى ناسنا فى بر مصر، وليتحقق جانب من هذا يجب أن تتسارع الخطوات لتفعيل دور المجلس الأعلى للثقافة ليشارك فى رسم السياسات الثقافية وطرحها على نحو يدرك التحولات الراهنة، والبعد المركزى للثقافة المصرية فى دوائرها العربية والإفريقية والأورو متوسطية، وتبنى مشروع التنوير بوصفه مشروعا للوجود لأمة تطمح إلى التنمية والبهجة والمعرفة، فى مقابل جماعات متطرفة لا تعرف سوى التكريس لثقافة الموت والقبح والجهل.
لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله رابط دائم: