رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وجوه راسبوتين

د. سهير المصادفة;

لم تثر شخصيةٌ تاريخية شهيرة غيرةَ المبدعين، وحسدهم وغبطتهم فى الوقت نفسه، بقدر ما فعلت شخصية الروسي: «راسبوتين»، ليس لجمالها الأسطورى الذى تجاوز الواقع فحسب، ولا بسبب اكتمالها الدرامى المذهل، وإنما أيضا لخلود فكرتها التى لم تمت حتى هذه اللحظة، وأظن أنها لن تموت أبد الدهر، مادام على الأرض بشرٌ بأطماعهم، وخوفهم من المستقبل، وأمراضهم، وأحلامهم، وكوابيسهم، وضعفهم، ونهم بعضهم لاستعباد بعضهم الآخر، وتوقهم إلى معرفة الغيب وما وراء الحُجبِ.

...........................................

وعلى مر التاريخ لم تلتصق برجلٍ أو حتى بطلٍ روائى كلُّ الصفات المتناقضة والمتنافرة مثلما حدث مع راسبوتين، فهو القديس والداعر، والطبيب والقروى الجاهل، والملاك والشيطان معا، وحبيب النساء وعدوهنَّ، ومحبُ الحياة المخملية فى البلاط القيصرى والناقم عليها، وهو المتنبى والنصَّاب، وهو الساحرُ ورجل الدين، وهو الحكيم العاقل والمجنون البذيء اللسان، وهو القذر بأظافره المتسخة التى تشبه أظلاف الحيوانات والنورانى الجميل فى آنٍ، وهو المعالج الروحانى والمشعوذ، وهو الآخر الذى أنهى الحكم القيصرى، وهو الأوَّل الذى أشعل ثورة الشعب ضد أسرته الحاكمة.

والحكاية أن رجلا قرويّا شبه جاهل اسمه جريجورى يا فيموفيتش راسبوتين، مولود فى 1869 فى إحدى قرى سيبيريا الفقيرة، حُرق منزله ذات يوم وهو فى العاشرة من عمره، وحُرقت أمه مع المنزل، بينما استطاع القفز إلى النهر القريب، فجرفه تيار النهر بعيدا، وحين خرج من الماء ادعى أنه قادرٌ على التنبؤ بالغيب، وعلى معالجة كلِّ الأمراض والجروح بمجرد لمسها، وأنه ابن السماء، حيث يستمع إلى أصوات مُنْزلة منها تأمره أن يكافح الشيطان. بالتأكيد اصطدم راسبوتين برجال الكنيسة الذين اعتبروه دجالا ومهرطقا، فنزح من سيبريا إلى عاصمة روسيا آنذاك «سانت بطرسبرج»، حيث التقى بإحدى النبيلات وكانت مريضة، فعالجها حتى آمنت به، ونقلت أمر شفائها إلى «ألكسندرا فيدوروفنا» زوجة القيصر نيقولا الثانى، ونصحتها أن تسمح له بالدخول إلى القصر لمعالجة ابنها ولى العهد «ألكسى رومانوف»، الذى كان يعانى من مرض نادر آنذاك، بأن ينزف دمه دون توقف إذا ما جُرحَ حتى لو كان جرحا صغيرا. وهكذا دخل راسبوتين إلى القصر، وعالج الأمير ممَّا جعل القيصر يؤمن به، فازداد نفوذه على رجال البلاط ونسائه وموظفيه وأمرائه ورجال الدولة، ولمَ لا؟! فهو فصيح، وحلو اللسان، ولديه كاريزما التأثير على مستمعيه. أصبح الجميع مفتونا به، حتى تقبلوا اختلافه وغرابة أطواره، فلقد كان لصا وفاجرا وفاسدا وداهية وسكيرا وقاتلا لمَن يقف فى طريقه. فى النهاية سيطر على القصر وخصوصا على الإمبراطورة ألكسندرا، وأخذ يجمع الثروة والنساء والمناصب والشهرة والمجد من الذين يريدون البقاء فى مناصبهم، أخذ يعزل مَن يشاء ويمنح مناصب النبلاء لمَن يشاء، كان ينظر للجموع بعينيه المخيفتين اللتين تشعان سحرا وقوة، فيقنعهم حتى بارتكاب الخطايا، مبررا الأمر بأنهم إذا ما أرادوا فهمَ التوبة الحقيقية والوصول إليها، فعليهم أوَّلا أن يمارسوا الخطيئة بإخلاص، وإلى حدِّ التطرف.

قال القرويون إنه كان يُسرِّح شعره الطويل فارقا إياه من المنتصف؛ حتى يخفى قرنى الشيطان المختبئين خلف أذنيه، وقالوا أيضا إنه لديه جناحا ملاك يخفيهما تحت ملابسه، وقالوا إن الأشعة التى تخرج من عينيه تمسُّ شغاف القلوب، وتذهب بالعقول فترضخ له ملبية كلَّ أوامره الموتورة.

ومثلما حدث مع العبقرى «أينشتاين» حين شرَّحوا مخه؛ ليعرفوا سرَّ عبقريته، درس الروس ملامح راسبوتين الجسدية؛ ليمسكوا بهذه الهالة المحيطة بوجوده، تلك الهالة التى كان يصفها بعضهم بقداسة غير مسبوقة، ويصفها بعضهم الآخر بشيطانية غير مسبوقة. وبالغ الناس فى وصف طول قامته، وذراعيه الطويلتين، ورأسه الكبير، وجثته الضخمة، قالوا إنه كان قادرا على شفاء حصانٍ بمجرد لمسه، وإن خلاياه كانت من نور، بل إن خلاياه من ظلمة لم يروها من قبل، وكانوا يهللون عندما يرونه: «يا له من ملاك»! أو يرددون بأنه التجسيد الأكثر وضوحا للشيطان، وهو فى مهمة إبليسية للقضاء على عرش القيصر.

قالوا وقالوا... ولكن أحد الأمراء الشباب واسمه «فيليكس» لم يصدق أيَّ شيء ممَّا يُقال، بل صدق أن المشعوذ غريب الأطوار، راسبوتين سيطر على عقول الأسرة الحاكمة مثلما سيطر على عقول الريفيين من قبل، فخطط مع ابن عم القيصر الدوق الأكبر «ديمترى» وجماعة من الأمراء لاغتياله. أغروه بأميرة كانت جميلة جميلات روسيا، وكانوا يعرفون أنه يتمنى لقاءها، فدعوه إلى العشاء، ووضعوا له السمَّ فى كئوس الخمر والكعك، شرب راسبوتين السمَّ كله، ولكنه لم يمت، فأطلقوا عليه الرصاص، وقالوا بعدها إنه لم يمت أيضا بالرصاص، وإنما تجمد حين جروه وأغرقوه فى نهر النيفا المتجمد، وعندما طفتْ جثته بعد أيامٍ رجحوا أنه مات جرَّاء الماء المتسلل إلى رئتيه، والمدهش أكثر أنهم وجدوا فى جيبه ورقة يتنبأ فيها بمقتله الذى سيعقبه مقتل أسرة القيصر الأخير نيقولا الثانى، وكلِّ عائلة ريمانوف الحاكمة، وهذا هو ما حدث تحديدا بعد أشهر قليلة، حيث تم إعدامهم جميعا واستعدت البلاد لبداية حكم الثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفيتى فى 1917.

ربما اجتهد راسبوتين بالفعل فى تحصيل العلوم الطبية المُتاحة آنذاك، فسيطر على الجموع التى كانت ترزح تحت وطأة الفقر والجهل والمرض، وربما درَّب جسده تدريبات شاقة وطويلة؛ لكى يحتمل كلَّ طرائق القتل، حيث تكهنوا أنه كان يتناول القليل من السمِّ كلَّ يوم؛ ليكتسبَ مناعة ضده، كما كان يحرك عضلات أحشائه ببراعة؛ ليتحاشى تسلل الرصاص إلى الأماكن القاتلة فى جسده.

وقفت روسيا والعالم بأكمله طويلا أمام حكاية الشيطان بتفاصيلها المذهلة التى استمرت وتشعبت تفاصيلها لأكثر من اثنى عشر عاما هى الفترة التى عاشها فى قصر آخر الأباطرة الروس، وانتقلت بعض محطات حياته إلى القصائد والسينما والمسرح والأوبرا، وتمت معالجتها عشرات المرات بأكثر من منظور للرؤية.

ولكن هل تعلم العالم درسَ راسبوتين جيدا؟! خصوصا وأن راسبوتين صار يبدِّل عبر التاريخ وجهه وأقنعته وملابسه، فيصير أحيانا طبيبا مرموقا، أو أحد الساسة المشهورين، وأحيانا أخرى رجل دينٍ لامعا أو مدرسا جامعيا، وأحيانا ممثلا محدود الموهبة ضلَّ طريقه إلى السينما، وفى أغلب الأحيان ساحرا يلعب بالبيضة والحجر، ويسيطر على العقول بحلو حديثه، ومؤامراته الدنيئة التى لا تنتهى، وعلاقاته العنكبوتية التى تُكبل الجميع بخيوطٍ غير مرئية، وما إن يتسلل إلى مؤسسة كبرى حتى يعيث فيها فسادا ولا يتركها إلا بعد تخريبها تماما فتصبح جثة هامدة.

لا. والله، لم يتعلم العالم درسَ راسبوتين، فراسبوتين فكرة لا تموت، حتى إن روسيا نفسها التى كانت مسرحا لحكايته المفزعة والأسطورية، عرفت أثناء حربها الباردة مع أمريكا وجها آخر لراسبوتين، حيث كشفتْ أمريكا عن جاسوس لها شغلَ منصب مستشار الرئيس الروسى آنذاك، وكان أكثر نظرائه دفاعا عن روسيا وإخلاصا والتزاما فى العمل، وعندما صعقتْ الجميعَ مفاجأةُ اكتشاف تورطه، سأله المسئول فى المخابرات الروسية عمَّا كان يقدم لأمريكا تحديدا خصوصا أنهم لم يضبطوا معه وطوال تاريخه الوظيفى معهم، ورقة مكتوبة بالحبر السرِّى أو اتصالا مريبا، بل كان يذهب كلَّ يوم من بيته إلى مكتبه والعكس، أجابه الجاسوس بهدوء: «أبدا، كان كلُّ المطلوب منى هو وضع الرجل المناسب فى المكان غير المناسب، فأضع مثلا أستاذا فى كلية الزراعة فى وزارة الصناعة أو فى وزارة الصحة، وهكذا...

وهكذا انهارت مؤسسات الاتحاد السوفيتى من الداخل عبر عقدين من الزمان، وهكذا... وللمرة الثانية يضيع مُلك روسيا فيتفتت الاتحاد السوفيتى إلى دولٍ مستقلة بعد أن كان القوة العظمى الثانية فى العالم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق