رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حى اكثر مما ينبغى لأنسان

حاتم حافظ ;

> إلى هيثم أحمد زكى



حين عاد من موته لم يُصدّق فيض المشاعر التى صاحبته إلى قبره.

حين مات لم يعرف أهل القرية فى حينها. لم يكن هناك أحدٌ ليخبرهم بموتِه. كان وحيدا. ورث بيتا واسعا وأرضا كبيرة. عاش لا يغادر البيتَ إلا للضرورة؛ لتجنب نظرات الحسد فى عيون الآخرين. كانوا، كلهم، يحسدونه، لكنه لم يكن يعرف علام يحسدونه.

دخل عامِلَه لينظف بيتَه فوجده ميتا. كان مستلقيا على الدَرَج. رأسُه لأسفل وساقاه لأعلى. أصابته نوبةٌ قلبيةٌ أثناء نزوله. حين سُمع الخبر فى القرية فَزع الناس. تذكروا كل إساءة. كل نظرة حاسدة. كان يمكنهم مواصلة الحسد والإساءة لو أنه ظل حيا. لكنه الآن ميتٌ. وليس من الشهامة أبدا الشعور بالحسد تجاه رجلٍ ميتٍ. كان موتا مفاجئا. كان شابا لم يزل. كان ذو جسد فتيّ ووجهٍ مليحٍ ناعمٍ. كان يمكن لأى شخص أن يحسده على شبابه أو على ملاحته أو على عِزّه، أو حتى على وحدته أيضا. لكنه الآن ميتٌ. لم يعد الحسد يليق برجلٍ ميتٍ ولا برجالٍ أحياء.

لم يكن له أحدٌ لينعى موته المفاجئ. لم يكن له أحد ليبكيه. لكن لا جنازة يمكن أن تعبر فى قريتنا دون عزاء. أول صوتٍ سُمع فى القرية كان صوت امرأة. أرملةٌ. أرملةٌ شابةٌ. كان لها سمعةٌ مُعكّرة. كانت تبحث عن رجلٍ. رجلٌ يحل محل زوجها الميت. كان لها ولد وبنت. لم يكن لها أهلٌ ليساعدوها على تربيتهما. شدوا على يديها ثم تركوها لشأنها. حين عض الجوع ولديها ذهبت إلى أرملٍ يسكن فى دار قريب. فكّت ربطة شعرها حين دخلت. تحججت بالحر. كان صيفا ساخنا رطبا. حين رآها الرجل تفعل ذلك التقط الإشارة. دار حولها دورة كما لو يرغب فى وزنها. كان تاجرا وله دكان كبير فى وسط السوق. كانت ما تزال فتية. جسدٌ تفسّخ قليلا بسبب حملين وولادتين وبسبب خلو البيت من حدقتى رجل. لكنها كانت فتية. وكان لها وجهٌ صبوح. وضحكةٌ جميلة. دار دورة ليتأكد من ميزانه. وكتاجر شاطر عرض عَرضَه دون خجلٍ أو مداورةٍ. لكنها كامرأةٍ شريفةٍ لم يلتهم الجوع كرامتها بعد أن صدّته بقسوةٍ. أخطأت الرجل. كانت تريد زوجا. حَسبتها بينها وبين نفسها. هو أرمل وأنا أرملةٌ. ليس له ولدٌ وأنا لى ولدٌ وبنتٌ. لكنّه حَسبها حِسبة أخرى. أنا رجلٌ وهى أرملةٌ جائعةٌ. عَرَض عليها مصاحبته سرا فألقمته حذاءها. لم يشعر بالإهانة. هو تاجرٌ ويعرف أن بين الشارى والبائع يفتحُ الله.

بعد سنتين وقفت أمام المرآة. تذكرت أنها تكبر بمرور الوقت، وأنها خلال سنتين لم تنجح فى اصطياد زوج، وأن فرصها تقل فى الزواج. الولدان كبِرا وبدآ يثيران جلبة فى الشوارع. هى الآن أرملة ولها ولدان، لكن بعد قليل سوف تكون أرملة ولها شحاذان صغيران، أو ربما أكثر. السترُ يا صاحب الستر. عادت إليه. حين دخلت فكّت ربطةَ شعرها. لم يعد لها نفس الوجه الصبوح ولا الضحكة الجميلة فعوضتهما بالعناية بجسدها. صار جسدها مشدودا، بفضل الجوع وبفضل الشقاء. تبقت لها بطن صغيرة غير مشدودة فشدتها بحزام أسفل جلبابها. كان الرجل كريما فلم يقلّل عَرضَه السابق. صاحبته. كانت تذهب إليه - حين يطلبها - مساء. قبل آذان الفجر يجب أن تغادر. كان يصحو قبل الفجر ليغتسل ليلحق بالصلاة جماعة. لم يرغب أبدا أن يخرج من بيته للجامع وهى ما تزال بداره. مهما كان الجو باردا كانت يجب أن تخرج متسللة. ومهما كان الجو باردا كان يجب أن يراه الرجال فى الجماعة.

سُمع صوتها صارخا حين عرفت الخبر. كانت فى داره لكنها لم تستطع كبح صوتها. كانت تسميه اليتيم. حين أخبرها بأنهم وجدوه ميتا تذكرت ولديها. كانا يتيمين. لكنها لم تنتبه ليُتمهما إلا الآن. لا يكون المرء يتيما حقيقيا إلا حين يكون وحيدا. أطلقت صرخة قضّت مضاجع البلد. الشائعة المقموعة فى الحناجر حول تسللها ليلا طارت فجأة كما يطير الحمام من بُرجه. ودّ البعض لو يضحك؛ لكنهم لم يضحكوا احتراما للميت. صرخةٌ ملتاعةٌ. حراقةٌ. كاد الرجل يخنقها لمنع صوتها، وكادت تفطس بين يديه، لكن الصوتَ كان قد صار ملكا للصدى وانتهى الأمر. والفضيحة كالرائحة لا يمكن إخفاؤها.

أصابتها لوثةٌ. خرجت من داره فى وضح النهار. بعد أن سمع الناس صرختها حدّقوا فى الدار. حاول منعها من الخروج لكنها دفعته بقسوة وخرجت. رآها الناس خارجة من داره وهى تلطم خديها. جرت فى الشوارع باتجاه دار اليتيم وكانت تبكى. رؤيتها تبكى بهذه الحرقة منعت الناس من السخرية من انكشاف السر. كما لو أن صوت صراخها فجّر الأحزان فى القلوب. غطى القرية سوادٌ. خرجت النسوة واحدة وراء الأخرى. خرجن جماعات. امتلأت الشوارع بالجلابيب السوداء. صرن كجوقةٍ من النائحات. حتى البنات الصغيرات. المراهقات. ابنة تاجر الحرير التى كانت تشد جلبابها بمشابك ليظهر تكوّر ثدييها، والتى كانت تتحجج بحرير طرحتها فى انكشاف نصف شعرها المصبوغ. حين سمعت الصوت شدت طرحتها جيدا حول رأسها وغطت عنقها وفكت مشابك جلبابها. وعند عتبة الباب أقسمت ألا يرى شعرها أحدٌ أبدا. تاجر الخضر قرر ألا يغش فى ميزانه مرة أخرى. خرج من دكانه ونظر للخياط الذى كان واقفا أمام دكانه يحدق باتجاه الصوت وقال «العمر ينقضى كانقضاء الحاجة». انقبض قلباهما وثقلا كأن على صدريهما حجارة.

امتلأت الشوارع بالنُواح الأسود. كنهرٍ من المازوت ممتدا من كل مكان باتجاه بيت اليتيم. كان المشهد جليلا حتى إن الرجال بدأوا فى الشعور بالخوف. الخوف من الموت. من المرض. من الوحدة. من الفقر. من عذاب القبر. من رحيل الأحبة. من جفاف النهر. من تيبس الدموع. من المذلة. من الهوان. من الشتاء. من الصيف. كان الناس يموتون طوال الوقت فى القرية. قبل أيام قليلة كانوا قد دفنوا ثلاثة أشخاصٍ فى يوم واحد. لكن موت اليتيم، الشاب، ذى الوجه المليح، بدا كأنه الموت نفسه. كان الناس يموتون لكن كانوا يموتون كوضع نقطة فى نهاية سطر، كنزع ورقةٍ من دفتر التقويم كل صباح، كسقوط الشمس فى النهر كل مساء. الناس يموتون. لكن موته كان موتا حقيقيا. ومكتملا. أكثر من أى موت آخر عرفوه.

شعر الجميع بأن الموتَ يُحلّق كشبحٍ عملاقٍ فوق القرية. الكآبة خيّمت على وجوه الجميع. بعد دقائق بدأ الرجال فى ترك دُورهم وأسواقهم ومقاهيهم. جاذبيةٌ أسطوريةٌ شدتهم نحو دار اليتيم. كان يمكن رؤيتهم سائرين واجمين فى الشوارع كما لو كانوا نائمين. ورغم أنهم رجالٌ أقوياءٌ سُمع صوت بكائهم. ارتفع صوت البكاء لحافة السماء فتجمد الطيرُ كلٌ فى مكانه. كانوا خائفين. لا يعرفون من أى شيء، لكنهم كانوا خائفين. وكتكفير يائس عن إساءاتهم - حين اجتمعوا عند بابه - بدأوا فى مديحه. كان شهما، شجاعا، كريما، بريئا، قويا، رجلا. كلُ شخصٍ امتدح ما يفتقده فى نفسه. كان مديحا بطعم الحسد. حسدٌ بطعم الندم. وندمٌ بطعم الحزن.

وبينما الناس متخشبون أمام بيته كتماثيل من الملح والدموع فجأة سُمع صوت قادم من داخل البيت. كان عامِلَه الذى وجده ميتا قبل ساعات قد استدعى طبيبا. العامل ظل واقفا بالقرب من الطبيب والجسد الميت الذى أمامه كما لو أنه يتابع مجنونا. لم يعد أحد من الموت يا طبيب. الذين يذهبون يذهبون بلا رجعة. كان الشاب - بالنسبة للعامل - قد مات وانتهى أمرُه. حتى أنه لم يكفّ عن البكاء طوال الساعتين اللتين راقب فيهما محاولات الطبيب إنعاش قلبه. كان طبيبا مجنونا. كان يمكن أن يتهمَه بالكفرِ أو بالجنون. يُستدعى الأطباءُ عادة لكتابة تصريحٍ بالدفن. ورقةٌ صغيرةٌ حتى يصبح الشخص ميتا لدى الحكومة. الشخصُ يكون ميتا سواء اعترفت الحكومة أم لم تعترف. لكنها الحكومة فى كل الأحوال. وحتى الموت لديها يحتاج إلى ورقةٍ رسميةٍ. جاء الطبيبُ وبدلا من تحرير الورقة حَمَل الجسد وبدأ فى تدليك قلبه والنفخ فى فمه وعمل أشياء لم يفهمها العامل المسكين. العامل شمّ رائحة الموت وكان هذا يكفيه لأن يعرف أن الشاب قد مات. حين دخل البيت شم الرائحة، حتى قبل أن يرى الجسد المستلقى على الدَرج. الموت يُعرف من رائحته وهو بخبرته عرف أنه ميتٌ، لهذا كان مشفقا على الطبيب الذى يهدر وقته ووقت الميت. لكن حين ارتعشت جفون الميت انطلق خارجا. كان شاهدا على معجزةٍ فانطلق خارجا كما لو كان يهرب. حين سمعه الناس يصرخ بأن الميت عاد من موتِه لم يصدّقوه. لا يعود أحدٌ من الموت أبدا. حتى مُعمّرى القرية لا يذكرون أن شخصا ما قد عاد من موته أبدا. الذين كانوا قد سبقوه إلى قبرِه لتهيئة دفنه عادوا خائبين. كانوا غاضبين. يتمايزون غيظا. لم تكن معجزة. كانت خدعة. شَعر الناس بأنهم قد خُدعوا. قد اُستدرجوا للعبة ما. فجأة جفلوا عائدين بسرعةٍ إلى ديارهم وإلى أسواقهم. وجرّوا نسوتهم أمامهم بعد أن كففن عن النحيب. خافوا من أن يكونوا قد تعرضوا لخدعةٍ بغرض سرقتهم. لكنهم حين عادوا وجدوا كل شيء فى مكانه. كل شيء لم يتغير أبدا. كلُ شيء كان على حالِه تماما. حتى الذى ظُن بأنه مات لم يمُت.

حين عاد من موته لم يصدّق فيض المشاعر التى صاحبته إلى قبره. الشاهد على المعجزة حكى له كل ما جرى فى ساعات غيابه. لم يُصدّق أن القرية التى طالما طلّت سخرياتها وحقدها من عيون أهلها يمكن أن تشعر بالفجيعةِ لموتِه. أصابَه الحزن. لم يكن يفهمهم إذن. أساء فهم نظراتهم. شعر بالحزن لأنه - بإساءة فهمهم - أساء إليهم. قرّر أن يذهب لكل واحد منهم ليعتذر وليقدّم قربان أسفِه.

فى الصباح خرج من داره بعينٍ مكسورة مُحرجا. كان مهزوما كشخصٍ يحمل كفَنَه. كان الجميع قد استعادوا ضغينتهم. لم يعبأ الناس بمقدار أسفه. اعتبروه شخصا شريرا. وبسبب الغضب فإن ابنة تاجر الحرير رفعت ثدييها أكثر من المعتاد وهى خارجة هذا الصباح. لم يقبل أحدٌ اعتذارَه أبدا. أرادوا معاقبتَه. معاقبته على عودته من موته. معاقبته على شعورهم بالفجيعة من أجل موته. ومعاقبته على شعورهم بالأسي؛ لأن موتَه كان خادعا. ومن أجل معاقبته؛ فبديلا عن الاستمرار فى حسده على شبابه وعلى ملاحته وعلى عِزّه وعلى وحدته بدأوا فى حسده على حياته. كان حيا. كان حيا أكثر مما ينبغى لإنسان. كان حيا أكثر منهم، وكان ذلك شيئا يمكن أن يحسده الناس عليه.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق