حين أتأمل المشهد السياسى الراهن الذى تعيشه مصر والمنطقة منذ بداية الألفية تستعيد ذاكرتى على الفور الكثير مما قرأت وعاصرت من أحداث وخطوب جلل، ومحطات رئيسية مرت بها الدولة المصرية عبر تاريخها. والمتابع الجيد لتاريخ مصر العريق يدرك أنه عبارة عن سلسلة متواصلة من التحديات والصراعات التى فرض على المصريين خوضها، هو تاريخ من الخطط والمؤامرات التى تحاك ضد هذا الشعب، وكان عليه دائما أن يكون يقظا لمواجهتها. وكأن قدر هذا الوطن وشعبه أن يعيش دائما فى حالة استنفار ورباط ليوم الدين، وصدق نبى البشرية خاتم المرسلين وسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: إذا فتح الله عليكم مصر بعدي، فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً، فذلك الجند خير أجناد الأرض.. أى أن أهل مصر فى رباط إلى يوم القيامة.
ولقد برهن التاريخ أن ما من قوة حاولت كسر إرادة الشعب المصرى إلا وكان مصيرها الزوال، ودائما ما تصدت مصر لكل المخططات والمؤامرات الرامية للهيمنة على الأمتين الإسلامية والعربية. وفى سبيل ذلك قدم المصريون الكثير من التضحيات عبر الحقب التاريخية المتوالية، من دماء ومقدرات مادية وحرية مسلوبة وحقوق مغتصبة، وتخلف عن ركب التقدم الحضارى الذى كانت مصر رائدة له، إلا أن كل ذلك صهر وكون الشخصية المصرية، وصاغ أعظم ما فيها من روح الكفاح والتحدي، والولاء لهذا الوطن، واليقين الكامل بأهميته وقيمته، والافتخار بالانتماء له.
وها هو الشعب المصرى منذ 30 يونيو 2013، يخوض حلقة أخرى من الصراع لمواجهة مؤامرة إعادة هندسة سياسية وجغرافية للمنطقة العربية، عبر تفكيك الدولة الوطنية فى إطار ما أطلق عليه الفوضى الخلاقة، أو مشروع الشرق الأوسط الكبير / الجديد الذى بشرت به، كونداليزا رايس الأمريكية، وعملت بلادها على تنفيذه عبر وكلاء وعملاء لها من أنظمة عميلة بالمنطقة على رأسها الإمارة الخليجية الصغيرة قطر، ودولة الخلافة البائدة، وقوى وتنظيمات الاسلام السياسى المتطرفة، وفى مقدمتها جماعة الإخوان الفاشية الإرهابية. ففى الوقت الذى تصور فيه مهندسو المشروع التآمرى وأعوانهم، أنهم وصلوا لغايتهم فى 2012 بوصول الجماعة الإرهابية لسدة الحكم فى مصر، وأن مصر صارت رأس حربة لتمرير مشروعهم للمنطقة بأسرها، وتوهم الأمير الصغير ابن موزة ومجنون الخلافة سليل العثمانيين أنهما سيطرا على مصر، أطاح المصريون بكل هذه الأحلام، وهدموا المشروع على رءوس أصحابه، ومارسوا عادتهم فى إذلال أعدائهم، وتلقينهم درسا لن ينسوه، حين أطاحوا بجماعة الإخوان إلى مهملات التاريخ فى 30 يونيو 2013. وبالطبع لن يغفر هؤلاء ذلك للمصريين، ولن يثنيهم عن مواصلة محاولاتهم لتنفيذ مخططهم التآمري. وبعد أن تيقنوا من أنه لا سبيل لنجاح مشروعهم إلا بعد تطويع مصر، وكسر إرادتها، أعادوا الكرة مرة أخري، كما يحدث عبر جميع فصول التاريخ، لمنع مصر من استعادة قوتها ومكانتها ونفوذها فى المنطقة.
فما يحدث فى سوريا، وليبيا، والسودان، وجيبوتي، وفى البحر المتوسط، وما يحدث فى سيناء، وتلك المليارات التى تنفق من أجل إضعاف الاقتصاد المصري، وعلى قنوات إعلامية كل دورها هو الهجوم على الدولة المصرية؛ ما هو إلا محاولة لحصار مصر.
إزاء ذلك كله، كانت القيادة السياسية المصرية شديدة الوعى بما يحاك ضد مصر، وقررت المواجهة بحكمة، عبر استعادة الدولة المصرية لعافيتها من خلال استكمال أى نواقص فى منظومة القوة الشاملة المصرية، والتى لحقها كثير من الضرر على مر العقود الماضية. والحقيقة الثابتة فى هذا الإطار، أن مصر تفتقر إلى الأسس الاقتصادية اللازمة للقيام بدور إقليمى رائد، فتأكيد تفوق مكانة مصر سيتطلّب تحويلها أولا إلى قوة اقتصادية حقيقية. لذلك كان من المنطقى والضرورى فى الوقت ذاته، أن ينصب اهتمامنا على النهوض بالاقتصاد المصري، من خلال إجراء تغييرات هيكلية عميقة ومؤلمة فى الاقتصاد المصري.
وبقدر ما تحمل المصريون مرارة هذه التغييرات الاقتصادية، بقدر ما كانت يد القدر رحيمة بمصر، فالاكتشافات الكبيرة والمهمة لحقول الغاز، سوف تدعم بقوة الاقتصاد المصري، بل مكانة مصر ونفوذها فى الإقليم والعالم.
كل ذلك أثار حفيظة المتآمرين والحاقدين، خاصة ذلك الأمير الخليجى الصغير، الذى كان يحلمٍ بوراثة نفوذ ومكانة مصر، وذلك العثمانلى الذى يحلم باستعادة دولة الخلافة البائدة، فما كان من الأخير إلا أن عقد اتفاقا مشبوها مع حكومة السراج، أسيرة الميليشيات المتأسلمة المتطرفة، فى محاولة لمنع مصر من مواصلة اكتشاف حقول الغاز فى شرق البحر المتوسط، وأن تتحول لمركز عالمى للطاقة.
ولعل الأيام القادمة سوف تشهد تصعيدا للوضع فى المتوسط على خلفية التصعيد التركي، ودخول أطراف أخرى لا يريدون لمصر الخير. وإزاء هذا الوضع، على مصر وهى تتحمل قدرها التاريخى والحضارى فى مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد أن تأخذ بكل أسباب القوة، وأن تتعلم من دروس التاريخ، أن قوتها فى صلابة جيشها، وقوة اقتصادها، ووعى شعبها.
لمزيد من مقالات سامى شرف رابط دائم: