من أصعب المواقف فى الحياة الرحيل المفاجئ للأحباب والأصدقاء فما بالنا إذا كانوا من نوعية إنسان جميل بالغ الرقى كسمير سيف؟ وإذا كانت العلاقة الإنسانية التى ربطتنا بهم متجذرة فى أعماق تكاد تساوى عمر المرء كله؟ فقد عرفت سمير منذ ستين عاما زميلا فى أولى أول بمدرسة شبرا الإعدادية، وتواصلت الصداقة طيلة المرحلة الإعدادية ثم الثانوية فى المدرسة التوفيقية، بل لقد شاءت الظروف أن تجمعنا لأسابيع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حيث كان يتعين على سمير أن يُسكن نفسه فى كلية ما حتى يطمئن إلى قبوله بمعهد السينما الذى كان حلم عمره منذ عرفته، وهو معنى بالغ الأهمية مفاده ألا إبداع دون عشق لما تدرسه وتعمل فى مجاله، وعبر هذه المرحلة الجميلة من العمر، التى جمعتنا ومجموعة من أخلص الأصدقاء وأنبلهم، نمت علاقتنا كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء، وكانت التربة الخصبة لهذه الشجرة هى شبرا الحبيبة التى أزعم أنها تجسد أفضل ما فى النسيج المصرى من وحدة وتلاحم، ولا يمكن لمن لم يمر بالتجربة الإنسانية الفريدة للعيش فى شبرا أن يدرك روعة أن تكون مصريا، بغض النظر عن ديانتك، وقد يُدهَش البعض من أننا ونحن فى هذه السن الصغيرة كنا نناقش بمنتهى الصراحة والتسامح بل والفكاهة أحيانا بعض الشوائب فى العلاقة بين أبناء الوطن الواحد التى تتسبب فيها قلة من الجهلاء، وباختصار أعطتنا شبرا أحلى سنوات عمرنا وأجمل معانى مصريتنا، وكان سمير فى هذا السياق هو المسيحى الملتزم دون أدنى تعصب، والمصرى الأصيل بكل معانى الوطنية الخالصة، ولأن اسمه ليس دالا على ديانته ولأنه كان على الدوام إنسانا فى سلوكه قبل أى اعتبار آخر فلم يكن الكثيرون يعرفون ديانته، وهذه بالمناسبة من الظواهر التى أعشقها فى الحياة المصرية وهى أننا كثيرا ما لا نعرف ديانة المصرى إلا بعد وفاته، ولقد أجابتنى الابنة العزيزة التى أبلغتنى بخبر رحيل سمير عن سؤالى عما إذا كانت تعرف مكان تشييع جثمانه الطاهر بأنه مسجد كذا... فى الأغلب لأنه قريب من المستشفى التى توفى فيه، وسألنى صديق عن مكان العزاء فلما أخبرته تساءل أكان مسيحياً؟ رحمه الله، وكتب الصديق العزيز حاتم فودة أن مسئولا سعوديا كبيرا وجه له دعوة لأداء فريضة الحج، كما غص عزاؤه بعدد لافت من النسوة والفتيات المحجبات باديات الحزن، وكلها شواهد على الحالة الإنسانية الرائعة التى جسدها سمير طيلة حياته.
وبمجرد تخرجه عمل مع كبار المخرجين كحلمى حليم وحسن الإمام وشادى عبد السلام ويوسف شاهين، ولا أعتقد أن هذه مصادفة لكنها إشارة مبكرة إلى تميزه وتفوقه، ورغم أنه كان يتحدث كثيرا عن استفادته منهم إلا أنه بلور لنفسه من البداية شخصيته الخاصة، وأذكر دفاعه الحار عن حسن الإمام وقيمته الفنية عندما كنا ننتقد معالجته السينمائية لثلاثية نجيب محفوظ، وأشهد بأنه أقنعنا بوجهة نظره، وبعد سبع سنوات فحسب من تخرجه أخرج أول أفلامه «دائرة الانتقام»، وهو من أفلام الحركة التى كان يعشقها، وكنا بالغى السعادة بأن نرى صديقنا العزيز يبدأ مسيرته الفنية بهذه القوة، فقد نجح الفيلم نجاحا لافتا، وتخيلنا أنه سيواصل الطريق على نفس المنوال فإذا به يبدع فى جميع أنواع الأفلام من الاجتماعى كالمشبوه والغول، إلى السياسى كالراقصة والسياسى ومعالى الوزير، بل والكوميدى كغريب فى بيتى، وقد تميز سمير منذ عرفته بحس كوميدى لافت، وكانت ضحكته قريبة ومجلجلة، وأذكر بصفة خاصة عندما كنا نمثل مسرحية «تاجر البندقية» لا يجيدها بينما كان سمير أفضلنا فيها كما ذكر الصديق أسامة الغزالى، وفى إحدى المرات أخطأ المخرج وهو يراجع أحد المشاهد فى نطق كلمة corn فنطقها cort وإذا بسمير ينفجر ضاحكا دون توقف خاصة، وقد شدد الرجل على الحرف الخطأ، كذلك فوجئنا أثناء قراءة النص علينا أن المسرحية تنتهى بهتاف: يحيا العدل...يحيا ناصر, فانفجر كلانا ضحكا من المبالغة، كذلك أخرج سمير عددا من الأعمال الكنسية لكن درتها كان فيلمه الأخير عالمى المستوى, أوغسطينوس...ابن دموعها الذى كرمه البابا تواضروس بعده، وقد اتصلت به بعد أن قرأت عن الفيلم ونجاحه أسأله كيف أشاهده فأجابنى برنة أسف بالغ, ياخبر...كيف فاتنى أن أدعوك إلى العرض الخاص. سوف أدعوك فى أول عرض مقبل، وكما عمل سمير مع كبار المخرجين عمل أيضا مع كبار الممثلين كنور الشريف وعادل إمام وسعاد حسنى ومحمود عبد العزيز وأحمد زكى، غير أن اللافت هو توظيفه قدراتهم على نحو غير نمطى، كما فعل مع عادل إمام فى المشبوه والغول، ومع نور الشريف فى غريب فى بيتى، وامتد عطاء سمير الفنى كما هو معلوم إلى التليفزيون فأخرج عددا من المسلسلات التليفزيونية الناجحة.
لعب سمير دورا بارزا فى تنمية الثقافة السينمائية، ولعل استضافة الصديقة العزيزة درية شرف الدين له فى برنامجها الرائد «نادى السينما» كانت الآلية الرئيسية فى هذا الصدد، غير أن مساهمته فى إعداد أجيال جديدة من السينمائيين تبقى هى الأهم، ويحكى الجميع عن إخلاصه والتزامه فى محاضراته بمعهد السينما، وقد جاءت جلستى ليلة العزاء إلى جوار الدكتور محمد شومان عميد كلية الإعلام فى الجامعة البريطانية، فعلمت منه أن سمير قد رأس فى الآونة الأخيرة قسم السينما بالكلية، وكم كان مؤثرا أن أرى أفواجا من شباب صغير وقد اكتست وجوههم بالحزن الصادق وهم يتحلقون حول زوجة أستاذهم يقدمون لها واجب العزاء، ثم يأتون إلى عميدهم لتعزيته، كذلك رأس سمير المهرجان القومى للسينما منذ سنوات وأدخل فيه هذا التقليد الرائع بعرض أفلامه فى المحافظات وإقامة ندوات حولها، فكأنه كان يتماهى بذلك مع حلم صلاح جاهين, تماثيل رخام عالترعة وأوبرا، وكان عميق الثقافة السياسية، وكثيرا ما كان يناقشنى فى مقالاتى بموضوعية تامة ويضيف إليها، ومع أنه لم يُخرج أفلاما سياسية مباشرة إلا أن فيلميه الراقصة والسياسى، ومعالى الوزير، كاشفان عن عمق نظرته السياسية، ودالان على أن المعالجة غير المباشرة قد تكون الأفعل. كان سمير صاحب خلق نادر وعاش حياة أسرية هادئة سوية فى وسط يموج بعدم الاستقرار، ولعل هذا بالإضافة إلى نبوغه هو ما مكنه من أن يقدم فى حياته كل هذا العطاء الذى أحسبه سيبقى فى الذاكرة المصرية كما بقيت إبداعات قاماتها الشامخة. رحم الله سمير سيف رحمة واسعة.
لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد رابط دائم: