رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

كان يحلم بأفغانستان جديدة..
«الطبيب الإنسان» رحل الجسد وبقى الأثر

دينا عمارة

حينما عرض عليه زملاؤه القيام برحلة استكشافية لتسلق الجبال فى منطقة بيشاور الباكستانية، لم يتردد مطلقا، فالطبيب اليابانى تيتسو ناكامورا طالما كان يهوى المغامرات والبحث عن «الفراشات النادرة»، إلا أنه لم يكن يعلم بأن الرحلة التى قام بها فى أواخر السبعينيات ستغير مجرى حياته إلى الأبد، وأنه سيقضى 40 عاما فى أفغانستان يعيد الحياة للقرى والمدن التى دمرتها الحروب وحاصرتها الأمراض.

> الرئيس الأفغانى يمنح ناكامورا وساما تقديرا لإنجازاته

لم يتوقف ناكامورا، البالغ من العمر 73 عاما، يوما عن الحلم بأن تجلب الأراضى الزراعية الخصبة الاستقرار والأمن لحياة الأفغان المحاصرين فى دائرة الحرب والفقر والمرض، لكن شظايا الحرب الأهلية كانت أسرع من أن يحقق الطبيب الطموح حلم حياته، فمنذ أيام قليلة تعرض «العم مراد» كما أحب السكان المحليون أن ينادوه، لهجوم مسلح من قبل مجهولين أودى بحياته وحياة خمسة آخرين، من بينهم سائقه. كان الحزن على مقتله عميقا بين زملائه الذين وجدوا صعوبة فى استيعاب اغتيال شخص يحظى بحب وتقدير الجميع، والأكثر من ذلك أنه كان يسعى لتحسين حياة الملايين هناك وتعمير الصحراء، لكن الحزن الأكبر كان من قبل سكان منطقة خوا، وهى منطقة فى نانجارهار شرق أفغانستان حيث تركزت معظم أعمال منظمته «السلام اليابانية للخدمات الطبية»، بينما تدفقت رسائل التعزية والإدانة لهذا العمل الوحشي، وعلى رأسهم الرئيس الأفغانى أشرف غنى الذى منح الدكتور ناكامورا الجنسية الأفغانية الفخرية فى أكتوبر الماضى تقديرا لخدماته الجليلة فى البلاد، معربا عن بالغ حزنه لاغتيال «بطل المساعدات الإنسانية» كما وصفه، بينما أبرز رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى العمل التحولى الذى قام به الدكتور ناكامورا قائلا إنه شعر بالصدمة لمقتل الطبيب الذى كرس حياته كلها لخدمة الشعب الأفغاني.

لم تبدأ مهنة ناكامورا فى أفغانستان بالعمل الإنسانى مطلقا، وربما هذا هو الغريب فى القصة، فبعد تخرجه فى كلية الطب بجامعة كيوشو اليابانية، لم يجد ناكامورا فراشاته النادرة التى كان يبحث عنها فى باكستان، بل وجد نفسه محاصرا بطلبات المساعدة الطبية من السكان المحليين الذين هرعوا إليه فورعلمهم بوجود طبيب فى قريتهم أملا فى أن يكون لديه علاج لأمراضهم، لكنه لم يتمكن إلا من توفير فحوصات صحية مؤقتة وهو الأمر الذى أزعجه كثيرا، فكلما زاد الترحيب به زاد شعوره بالذنب والإحباط كونه لا يملك الأدوات الطبية المتقدمة للمساعدة والعلاج. ولكن مع كل زيارة كان يقوم بها الطبيب الإنسان لقرى أفغانستان وباكستان الفقيرة، تعزز لديه هدفه الإنسانى فى الحياة، فالتجربة هناك غيرت حياته وبالأخص حينما شاهد طوفان اللاجئين من أفغانستان المجاورة هربا من الحرب التى نشبت بسبب الغزو السوفيتي، لذلك أسس فى عام 1983 مع رفاقه عيادات لعلاج السكان المحليين واللاجئين الأفغان الفارين من هذه الحرب، وفى العام التالي، شغل منصبا فى مستشفى فى بيشاور فى شمال باكستان بالقرب من الحدود مع أفغانستان.

عام 2000 كان عام التحول الجذرى بالنسبة لناكامورا،, فقد دفع الجفاف فى أفغانستان إلى تخليه «مؤقتا» عن مهنة الطب وشرع فى بناء قنوات الرى فى البلاد، وكان دائم القول بأن قناة رى واحدة ستفيد أكثر من 100 طبيب، حاول الدكتور ناكامورا، الذى تعلم أيضا التحدث باللغة المحلية، الباشتو، فى البداية تحسين الوضع من خلال حفر مئات الآبار للحصول على المياه النظيفة، لكنه سرعان ما أدرك أن هذا ليس هو الحل، لذلك تحول إلى بناء القنوات من مصادر المياه الحالية لرى المناطق القاحلة، وبعد مواجهة صعوبات فى شراء معدات لحفر القنوات الأولي، استمد الإلهام من تلك التى بنيت منذ أكثر من 200 عام فى مسقط رأسه فى اليابان، بعد أن قام بتعليم نفسه كيفية وضع مخططات لنظام الرى وكيفية تشغيل الآلات الثقيلة.

على مدى ستة أعوام، ومع وجود قوى عاملة مستمدة من القرى المنكوبة بالجفاف، ساعد «العم مراد» فى بناء قناة «مارواريد» الرئيسية بطول نحو 15 ميلا، والتى اكتملت نهائيا فى عام 2010، وتوفر الآن مياها نظيفة لما يقرب من مليون شخص، وتروى نحو 60000 فدان من الأراضى القاحلة سابقا، أما فى السنوات الأخيرة، فقد عمل ناكامورا بالشراكة مع منظمات الأمم المتحدة والوكالة اليابانية للتعاون الدولى لنشر خبرته المتراكمة فى جميع أنحاء أفغانستان.

الآن وبالنظر إلى الحياة الحافلة التى عاشها طبيب «المساعدات الإنسانية» فى أفغانستان يمكن القول إنها لم تكن سهلة على الإطلاق، وكانت دائما محفوفة بالمخاطر، خاصة بعد الغزو الذى قادته الولايات المتحدة عقب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية فى عام 2001، وقتها انهار الوضع الأمنى فى الوقت الذى اشتبكت فيه القوات التى تقودها الولايات المتحدة مع طالبان والقاعدة، لكن ناكامورا واصل العمل، حتى بعد قيام مسلحين عام 2008 باختطاف وقتل أحد زملائه، كازويا إيتو، وهو الحادث الذى أجبر المنظمة على غلق معظم عياداتها فى البلاد وعاد الموظفون اليابانيون إلى ديارهم، لكن بقى ناكامورا فى البلاد يتحدى الموت مرة ويهرب من نيران الرشاشات من طائرة هليكوبتر عسكرية أمريكية مرات أخري، ويهرع مرة ثالثة لحماية السدود التى كان يهددها نهر غاضب، لذلك لم يكن غريبا أن يمنحه الرئيس الأفغانى عام 2018 وساما فخريا تقديرا لمجهوداته، وقبلها حصل عام 2003 على جائزة رامون ماجسايساى للسلام والتفاهم الدولي، وهى جائزة آسيوية تعادل نوبل للسلام، لكن ناكامورا لم يكن يهتم كثيرا بهذه الأشياء، فهدفه كان منصبا على تحصيل النتائج بدلا من تلقى الجوائز.

الآن، ورغم رحيله فإن الأثر الذى تركه فى نفوس الشعب الأفغانى سيخلد فى التاريخ، سيذكرون كيف أصر على البقاء حتى فى الوقت الذى بدا فيه العالم يفقد اهتمامه بمحنة البلاد، وكيف استطاع تسليط الضوء على الزوايا المظلمة هناك، لقد كان دائم القول إنه سيكون سعيدا بالموت فى أفغانستان.. يبدو أن رغبته قد تحققت فى النهاية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق