تعد الترجمة الوسيلة الرئيسية لتحقيق عالمية الخطاب الفكرى الإنسانى لما تؤسسه من جسور للتواصل بين الثقافات وبعضها وبعض، ومع تطور العلوم وتشابكها أصبحت الترجمة علما متعدد التخصصات، وتغير دور المترجم ليصبح شريكا للمؤلف وليس مجرد ناقل للعمل من لغة وثقافة إلى أخري. عن التحديات التى فرضها هذا الواقع الجديد على دراسات الترجمة يأتى كتاب «فى مكان الآخر: مقالات متعددة التخصصات فى دراسات الترجمة من القاهرة»، الصادر أخيرا عن «دار الكتب خان».
لا تكمن أهمية الكتاب الذى يحتفل مركز دراسات الترجمة بالجامعة الأمريكية بإطلاقه، مساء اليوم الثلاثاء، فى كونه يوثق لجهود المركز الذى أكمل عقده الأول، بقدر ما تكمن فى مساهمات المشاركين فيه. فالكتاب يتضمن مقالات عن الترجمة و أبحاث وشهادات علماء لغة وفنانين وكُتاب وباحثين من مصر والعالم من المعنيين باللغة العربية والترجمة، بينهم: المترجم الراحل دينيس جونسون ديفيز الذى ترجم أعمال نجيب محفوظ للغة الإنجليزية، وهمفرى ديفيز، مترجم الأدب والنصوص التاريخية والكلاسيكية، ود.تحية عبد الناصر، الأستاذ المشارك للأدب الإنجليزى والمقارن بالجامعة الأمريكية، ود.فريال غازول، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة، والفنان عادل السيوي، ود.عماد أبو غازي، وزير الثقافة الأسبق، ود.أنور مغيث، مدير المركز القومى للترجمة، وغيرهم من الأكاديميين بالجامعة الأمريكية وخارجها، والمتخصصين بمجالات متنوعة.
«الترجمة هى عمل يتخلل ويحدد ويشكل هوياتنا ذاتها، وعلى الرغم من أن الترجمة أساسية لوجودنا الإنسانى الجماعى ، فإن محاولاتنا لفهم وتنظير العمليات التى تشكلها حديثة جدًا».. هكذا ترى محررة الكتاب الدكتورة سامية محرز، أستاذة الأدب العربى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ومديرة مركز دراسات الترجمة بالجامعة، التى تحدثت فى حوارها معنا عن أبرز القضايا التى تضمنها الكتاب وأهداف مركز دراسات الترجمة الذى ترأسه.. فإلى نص الحوار.
ما هى الصعوبات التى واجهتك لإخراج هذا الكتاب؟
كان العمل على الكتاب مرهقا بشدة واستغرق ما يقرب من عام ونصف العام، وهذه سمة العمل الجماعى الذى يحتاج لوقت كبير خاصة عندما يكون التنسيق بين 35 فردا من تخصصات مختلفة أسهم مجهودهم بالكتاب، وكانت إليانور إليس، المحررة المساعدة معى فى كل خطوة. والكتاب يختلف عن كتب كثيرة فى دراسات الترجمة فهو يعتمد على عدد مختار من المحاضرات التى ألقيت فى المركز على مدى العقد الماضي، ويضم بعض البحوث والشهادات لكبار العلماء والممارسين والناشطين والفنانين من مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، مع التركيز فى المقام الأول على العالم العربي. تقدم مساهمات هؤلاء صورة أكثر تنوعا وتشابكا لتطور دراسات الترجمة. وسعدت جدا بأن نشره تم من خلال ناشر مصري، دار الكتب خان.
ما هى الرسائل التى يتضمنها الجزء الأول من الكتاب؟
يأتى الجزء الأول بعنوان «المترجم: ذكريات، شهادات، وتأملات»، ويتضمن شهادات من المترجمين الرئيسيين من العربية إلى الإنجليزية، وكذلك الفرنسية والإيطالية إلى العربية. تعرض بعضها تجارب وأفكارا شخصية لأصحابها حول مسيرتهم المهنية، بينما تتناول مقالات أخرى تفاصيل الترجمات النصية التعاونية والفردية، و من خلال هذه الشهادات، نرى بوضوح أن المترجم هو أولاً وقبل كل شيء قارئ وناقد بارع بالمعنى الواسع للكلمة، حيث تعد ثقافة القارئ الخاصة به المفتاح لأفضل الممارسات فى هذا المجال. تبرز أيضا من شهاداتهم كيف أن المترجم هو شريك للمؤلف، منتج مبتكر وليس مجرد منتج ماهر. وهذا بالضبط ما يحدد كيفية نقل نصوصهم من ثقافة إلى أخري.
وماذا عن تحديات التنقل الثقافى واللغوى التى يواجهها المترجم ؟
هناك جزء فى الكتاب مخصص بالفعل لتلك القضية وإشكاليات الترجمة والتنقل عبر: اللغات والثقافات، والسجلات، نستعرض من خلاله تشارك الاستراتيجيات والتحديات التى تحمل من ثقافة إلى أخري، مختلف التعابير اللغوية، والاستعارات المتعددة، وكيف يمكن لهذه الرحلة بين لغات مختلفة (العربية، الإنجليزية والفرنسية والتركية والألمانية) بشكل متزامن أن يكون لها تأثيرها فى سياقات مختلفة من السلطة. يستكشف الكتاب ذلك من خلال مجموعة من الأمثلة، من استعارات الجسد، إلى الدلالات الثقافية فى الترجمة الآلية، وأهمية الترجمات الرقمية.
الكتاب جمع بين تحديات الترجمة الأدبية وبين قضايا الهجرة والهوية فكيف تم تناولها ؟
تناولنا هذه القضايا عبر محورين الأول يتضمن «الترجمة والهجرة والهوية»، ويضم مقالات تتناول بشكل أساسى العلاقة بين الترجمة والقوة والهوية فى عالم معولم وارتباط ذلك بسياسات الترجمة، ومقاومة اختلالات القوة الضمنية فى الترجمة، وأهمية التعاطف. هذه هى بعض القضايا التى تشغل بال المؤلفين فى هذا القسم، سواء كانوا يتعاملون مع الكتابة وترجمة الشعر، والأدب، تشمل هذه المجموعة الشعراء والروائيين البارزين، جنبًا إلى جنب مع الناشطين وطلاب الدراسات العليا، مما يوفر مجموعة واسعة من الخطابات والتأملات حول قضايا الهوية والهجرة فى علاقتها بالترجمة.
أما المحور الثانى فيضم «الترجمة الأدبية: التحديات والفرص»، فيركز على التحديات المتغيرة التى تواجه ترجمة الأدب. كما يستكشف مشاكل ترجمة الشعر فى عصر النثر، والآثار المتعددة للنصوص الأدبية العربية فى الترجمة، وتحديات ترجمة أدب الناشئة والأطفال من الإنجليزية إلى العربية.
ماهى القضايا الأخرى التى يناقشها الكتاب؟
يناقش الكتاب أيضا قضية الترجمة عبر التخصصات المختلفة، من خلال مقالات تستكشف التأثير السياسى والثقافي، والترجمات داخل تخصصات الفن الإسلامي، ودور النقاد الثقافى كمترجمين ، ودور الفنون البصرية. حيث يتم تخصيص جزء آخر لترجمة المسرح والشاشة نعرض من خلاله أمثلة على الترجمة البصرية فى السينما والدبلجة وترجمة الأفلام. يتعرض لمشاكل الترجمة بما فى ذلك تعريب النصوص وإضفاء الطابع المصرى عليها، وكذلك التحديات والقيود والفرص المتاحة من خلال تكييفها الإبداعى في السياق المستهدف.
الكتاب يعكس التطور الكبير فى دراسات الترجمة ..إذن كيف وازن المركز بين التنظير والممارسة؟
حاولنا الجمع بين الاتجاهين لأننا نؤمن بإن كلا منهما يكمل الآخر. فالترجمة عمل يتخلل ويحدد ويشكل هوياتنا ذاتها و على الرغم من أن الترجمة أساسية لوجودنا الإنسانى الجماعي، فإن محاولاتنا لفهم وتنظير العمليات التى تشكلها حديثة جدًا. تعتبر دراسات الترجمة مجالًا أكاديميًا جديدًا. تأسس المركز على قناعة راسخة بأن الترجمة ليست مجرد عملية لنقل النصوص من لغة إلى أخري، ولكنها عملية دائمة للتفاوض بين النصوص وبين الثقافات. و قد جلبت التطورات فى مجال دراسات الترجمة وجهات نظر جديدة حول عملية الترجمة، عززتها التحالفات النقدية مع مختلف التخصصات المتنوعة مثل نظرية ما بعد الاستعمار والدراسات الجنسانية «النوع الاجتماعي» والدراسات الإعلامية ودراسات الأفلام ولغات الأقليات، واللغويات، من بين أمور أخري. ومع عولمة النقاشات، وصلت دراسات الترجمة إلى لحظة تنتقد نفسها. كما أن وضع المترجم نفسه قد تغير وانتقل إلى مركز الصدارة فى النقاشات حول طبيعة وتاريخ المهنة. وتم إعادة تعريف دور المترجم وإعادة صياغته، ومن هنا نركز على تنمية وتعزيز المهارات الإبداعية للمترجم والترويج للترجمة كممارسة سياسية وثقافية.
منذ تأسيس المركز عام 2009، أطلقنا سلسلة محاضرات عامة عكست مجموعة واسعة من القضايا والتحديات التى يواجهها المترجم، وفتحت مساحة للتأمل والبحث متعدد التخصصات، كان الفهم الواسع لما تعنيه الترجمة وكيف تشكل الكثير مما نقوم به مغريًا بما يكفى لجذب العلماء السياسيين والمؤرخين وفنانى البصريات والمسرح والدبلوماسيين وعلماء العمران وغيرهم، وقد أثمر ذلك التشابك بين التخصصات فرصا متعددة لمشروعات تعاونية ناجحة بين المركز وجهات مصرية وإقليمية ودولية، حرصنا خلالها على الجمع بين التنظير لمناقشة كل التطورات فى دراسات الترجمة وبين استكشاف طرق جديدة للممارسة.
رابط دائم: