بهذا الاسم صدرت رواية للمبدع عادل عصمت عن دار الكتب خان (2017). الرواية تعالج ظاهرياً، أو فى بُعدها الأول المباشر، مشكلة زوجية تترنح على حافة الطلاق، لكنها، على مستوى أعمق، تناقش الملكية والتملك وتكشف لنا أنها، على النقيض مما نظن، هى العبودية والارتهان فى يد ما نحرص عليه ونتشبث بامتلاكه فيمتلكنا هو ويستعبدنا، أو يستعبدنا ذلك الحرص والتشبث نفسه، فيصير المملوك هو المالك مادمنا قد تمسكنا بامتلاكه، أمّا إذا وهبناه الحرية وأطلقنا سراحه تحررنا نحن وصرنا خفافاً كالطير أو كالروح السارية فى الملكوت بعد أن تخلصت من أثقال الجسد ووصلت بالموت إلى الحياة الحقة.
كل هذا التنظير المجرد لا يوجد فى الرواية، التى تركز على يوميات زواج ينهار، وذكريات السنوات السعيدة، منذ اللقاء وأول نظرة إلى عنفوان التوحد، وميلاد الطفلة والسعادة التى ترفرف وهى تزحف وتخطو خطواتها المترنحة الأولى.. ثم التغير المفاجئ بعد سنوات عشر من الهناء ودوام العنفوان والتلاقى والانسجام. لا يحرص الراوى، الذى هو الكاتب، على أن يشرح للقارئ سر هذا التغير فى نفس ريم، الزوجة التى كانت دائما ذات حالات وتقلبات، لكنّ أحوالها المتقلبة كانت دائماً فى إطار الحب والتفاهم بينها وبين زوجها مُهاب الصيدلى الموسر الذى كان طوال عمره دون جوان يتقلب بين النساء ويبدلهن كالثياب، حتى التقى ريم ففتنته وثبت قلبه على حبها. وما يعذبه الآن أنه بدأ يفقد مهابته أمام نفسه، لأن محبوبته، التى ظنها دائماً مُحِبّة عاشقة، تطلب الانفصال النهائى وتصر عليه. هجرته، وهو الذى عاش حياته محبوباً مطلوباً مرغوباً. هنا تكمن علاقة الحكاية بالمقدمة النظرية التى استهللنا بها هذه المقالة: التشبث بالملكية الذى يجعلنا عبيداً أذلاء، لأن انفلات الطير الأسير من يدنا وهجرانه للعش يهدم صورتنا أمام أنفسنا: صورة القوىّ المهاب المحاط بالأحباب. فمهاب بعد الهجر فقد المرآة التى كانت تعكس له تلك الصورة، فلم يعد مصداقاً لاسمه أمام نفسه. أمّا ريم فقد كانت دائماً تلك الغزالة الشاردة التى يوحى بها اسمُها، لكنها طوال السنين العشر لزواجهما كانت مُحبة مخلصة. الجديد أن ذلك الحب يبدو أنه انتهى فى قلب ريم، وكرد فعل غريزى تضاعف الحب لدى الزوج المهجور الذى شردت منه الغزالة فقرر أن يطاردها حتى الموت، فإن لم تعد لحوزته أتلف الجمال الذى كان يتملكه ؛ باختصار قرر أن يُحرق وجهها بماء النار! وفى انتظار تلك اللحظة، يدور مهاب بسيارته فى المدينة وما حولها بسرعة مجنونة فيكاد يفقد حياته فى اصطدام مروع. وكما تروى لنا بعض التجارب الحياتية لأناس بلغوا حالة الموت الإكلينيكى لكن تم إنقاذ حياتهم وعادوا بعد أن تخطوا أعتاب عالم آخر، يصف لنا الكاتب مقدار شعور مهاب أمام تلك الأعتاب بخفة وانطلاق وفطنة أدرك بها روعة الحياة حين تكف قبضتنا عن التشبث بأشياء صغيرة لا تمثل شيئاً أمام بهاء الوجود الأعلى. يعود مهاب للحياة الأرضية بخبرة الذوق من نبع الحياة الحقة، يعرف الآن كم هى ثمينة نفحة الحياة فينا، وكيف نضيّعها أو نكاد فى تُرّهات، وفى حماقة أوهام التملك التى تجعل منا عبيداً. ويرى أمامه فى غرفة المستشفى وهو يفيق زوجته الشاردة ريم بعد أن تبدلت وصارت ترتدى النقاب، فيتعجب أولاً لكنه يعلن اكتشافه العظيم الذى يحرره هو أيضاً: هى حرة! ترقص، تنتقب، تتطلق، هى حرة.
الرواية مكتوبة رغم عمقها دون تقعير، بل يلتزم فيها عادل عصمت النهج التسجيلى للحظات الحياة اليومية الصغيرة، يلتقط ما ينتقيه منها، ويسجله من منظور مهاب الذى عشق امرأة كالحياة فاتنة وغادرة، كادت تتلفه ويتلفها لولا أن ذاق وهو على حافة الموت شَهْد الحياة الحقة ومعناها العظيم: الحرية.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: