من أين تنبع القداسة؟ سؤال وجدانى روحى يجيب عنه الإنسان بإجابات متفاوتة حسب الزمان والمكان الذى يحكمه، فكانت تنبع من تصورات خارقة ومعجزات متوهمة، إلا إنها مع التطور النفسى والعقلى أخذت أشكالا جديدة على التصور التقليدي، فيحكى أن راهبة شابة أقبلت على القديسة (تيريزا) تسألها ما القداسة؟ فأخذتها إلى دير أنشأته حديثا ولا يتوافر فيه أى أسباب للراحة المعيشية، وأوكلت إليها العديد من المهام، وأخذت الشابة تكابد الصعوبات وتتحمل العذاب فى صبر على أمل أن تحصل من القديسة على إجابة لسؤالها عن القداسة، وتكشف لها عن التصورات الدينية الخفية عن القداسة التى تتمناها، وعندما جمعت أطراف شجاعتها لتعاود السؤال بعد صبر وتحمل طويل على حياة الشقاء والتقشف، أجابتها القديسة (تيريزا) بأن القداسة ما هى إلا ما تتحملينه من عناء فى صبر وحب لخدمة الناس رضاء للرب دون ملل أو تذمر!
بهذا المعنى الرمزى عن القداسة أجده ينطبق على المرحومتين أمى وأختي، اللتين تحملتا نزقنا وقلة خبرتنا وكذلك التعب والألم فى صبر وحب، تولد عندى قناعة بأن الشعب المصرى فى مجمله يتمتع بشيء من القداسة! فهو من أقدم الشعوب، وقدم أول حضارة عرفها التاريخ ومرت عليه الويلات والخيبات وتحمل صعاب الزمن والأطماع الخارجية والحروب الدامية، ولكنه استمر وعاش ولم يندثر، بفضل قداسته التى تنبع من الصبر والحب!
وربما فى اعتقادى تعود هذه المعجزة العبقرية فى شعبنا إلى تقبله طوفان الاختراعات الثقافية التى تفد إليه من الثقافات الأخري، ليأخذها ويهضمها فى ثقافته الخاصة ليخرج باختراعات ثقافية جديدة تساعده على التعايش السلمى بين مكوناته الاجتماعية بفضل هذه الاختراعات لم تظهر المشاكل الاجتماعية إلا بتبنى الأيديولوجيات المغلقة التى قسمت المجتمع وخلخلت التوازن الاجتماعي، الذى استقر عليه المجتمع المصرى على مدار تاريخه بقبول الاختراعات الثقافية التى تحفظ هذا التوازن، وعرف بالشعب الواحد صاحب الدينين الإسلامى والمسيحي، وكذلك اليهودي، وعندما بدأت فكرة الأخونة المتطرفة استدعت بالضرورة التطرف المقابل، وظهرت الجماعات الدينية المتطرفة بمختلف توجهاتها التى مازلنا ننكوى بفتنتها،فى محاولة ملحوظة على مستوى الشعب والدولة لاستعادة التوازن التاريخى المنفتح على المخترعات الثقافية الإيجابية المجدية من خبرات شعوب العالم التى نجحت فى الحفاظ على توازنها الاجتماعي!
وقد ظهر هذا الخلل فى التوازن المنشود فى الإثارة غير المبررة فى الدفاع عن فضيلة الشيخ (متولى الشعراوي)، لمجرد أن إعلامية شابة أبدت فيه رأيا، وهى الجميلة (أسما شريف منير) وهى ابنة الفنان المعروف بوعيه الفنى فيما يقدم من أعمال، وانتمائه الوطنى فى التصدى لموجات التخلف الإرهابية، فلا يختلف عليه أحد فى قيمته الفنية أو الوطنية، والذى فوجيء بهذا الهجوم على ابنته مما دفعها إلى الاعتذار عن رأيها! الذى لن يضير فضيلة الشيخ فى شيء، مثلما لا يضيف له الدفاع قدرا، فالشعراوى عالم متمرس استطاع أن يضع بصمته فى قلوب الناس من خلال استخدام خبرته فى اللغة العربية والبلاغة، فى تفسير مدهش للآيات القرآنية، يجبر الجميع على الإصغاء لفصاحته وحسن بيانه، خاصة أنه يجيد التعبير باللغة الدارجة، فوصل إلى كل المستويات الشعبية بموهبته التلقائية، إلا إننى أعتبر أن عبقرية الشيخ تكمن فى تبنيه النسبية الفكرية فى مواقفه المعلنة بمعنى انه يحدث مراجعات لآرائه بناء على ما يستجد لديه من خبرات جديدة دون أن ينغلق على آرائه وتأخذه العزة بالنفس، ويدعى الحكمة بأثر رجعي، أو يعميه الغلو عن التراجع فاستفاد وأفاد من حرية التعبير، خاصة موقفه من الزعيم الراحل (جمال عبد الناصر) الذى رثاه ببلاغة ونعته بالثائر المثير والملهم الملهَم والقائد الحتم والزعيم بلا زعم ولو على قديه يكون الحداد لتخطى الميعاد إلى ما لا نهاية!، ثم عاد وقال إنه صلى ركعتين لله شكرا على أقسى هزيمة عرفتها مصر فى (67) حتى لا تنتصر مصر وهى فى أحضان الشيوعية! مرة أخرى عاد قبيل وفاته وزار قبر (عبد الناصر) ترحما عليه لدوره فى تحديث الأزهر! كذلك مع الراحل (أنور السادات) أقسم فى مجلس الشعب بأن الأمر لو بيده لحكم للرجل بألا يسأل عما يفعل! ثم عاد واختلف هو نفسه مع الرئيس الراحل فى أمور عديدة، فهو عندما جاهر بآرائه كان مقتنعا بها ولكن لطبيعته الشعرية كان يتخذ المجاز فى التعبير المبالغ فيه، إلا أن استعارته الاختراع الثقافى العلمى فى «النسبية» أسس عند محبيه فكرة جديرة بالاتباع بعدم التمسك بالمطلقات، وأن آرائنا كلها نسبية عرضة للتغير والتبدل، دون أن ينتقص ذلك من صاحبها، فيحمد له توطين هذا الاختراع الثقافى ليشفى العقول من حالة التقديس المرتبطة بتغييب العقل وتأليه الأفراد وقمع الآراء المخالفة، إلى حالة التقديس الحميدة القائمة على الصبر والحب فى السماح للناس بحرية التعبير! كما أتيحت للشيخ نفسه!!
لمزيد من مقالات ◀ وفاء محمود رابط دائم: