يظن بعض الشباب المؤمنين بأفكار التنوير والحداثة والتقدم أن هذه الأفكار ترتبط بإحداث قطيعة مع الأديان. ولكن عندما نتأمل المرحلة الأكثر أهمية فى ولادة هذه الأفكار، من أواخر القرن السابع عشر إلى نهاية القرن التالى، نلاحظ أنها تعايشت مع المسيحية، وأن الكثير من رواد تلك المرحلة اتخذوا مواقف إيجابية تجاه الأديان، مثل الإنجليزى جيرمى بنثام الذى أبدى إعجابه بأخلاق المسيح عليه السلام. ومما أغفله التاريخ فى هذا المجال كراس جون لوك الصادر عام 1690 تحت عنوان: معقولية المسيحية، والذى حاول فيه استخلاص ما رأى أنها مبادئ صافية قيمة تظهر عندما نحرر العقيدة ممن يُسيئون استغلالها. وربما كانت حملات رجال الدين ضد هذا الكراس عقب إصداره سببا فى الحد من تداوله، ثم نسيانه على نحو جعل الحصول عليه بعد ذلك صعبا، برغم أنه مذكور فى كتابات بعض معاصرى لوك، وكل من أرخوا له. أما من لم يتفاعلوا إيجابيا مع الأديان، فقد بقوا فى مواقع محايدة تجاهها، أو أوضحوا أن التدين مسألة شخصية مثل ايمانويل كانط الذى ذهب إلى عدم إمكان إثبات الميتافيزيقا ما وراء الطبيعة أو نفيها بطريقة علمية، وأن الدين حالة شعورية جوانية تقوم على الشعور الشخصى الأخلاقى تجاه فكرة الواجب، التى تأخذ صورة إيمان بوجود إله يُنظَّم الكون. ولذا، لم نجد فى تلك المرحلة تعارضاً بين التحرر والتدين. ويبدو أن سلاسة التعايش بين الأفكار التنويرية والمسيحية فى تلك المرحلة دفعت بعض من اهتموا بدراستها لأن يذهبوا بعيداً جداً، مثل بينجو رباخ الذى تحدث عما سماه لبرلة المسيحية أو تمسيح الليبرالية فى مقالته ضمن الكتاب الذى أصدره أنسيل بارى ونُشر عام 1997 تحت عنوان: قراءات ثقافية فى الظاهرة الاستعمارية. يختلف الإسلام، بطبيعة الحال، عن المسيحية على صعيد العلاقة بين الإيمان الشخصى ونمط الحياة. ولكن العامل الرئيسى وراء هذا الاختلاف، الذى حال دون تعايش إيجابى بين الأفكار الحديثة والإسلام، يرتبط بالتاريخ والفكر البشريين أكثر مما يعود إلى صحيح الدين. وهذه فرضية يمكن إخضاعها للبحث، وربما نعود إليها فى اجتهاد قادم.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: