من التاريخ ننطلق للمستقبل، والمزاعم السياسية الصهيونية منذ هرتزل حتى اعتراف ترامب بالقدس ترتكز على تزوير التاريخ، والاستفادة من أخطاء تتكرر، وفى المقابل هناك من يردد أكاذيب بلسان عربى، ويهول من أخطاء افتراضية أو حقيقية وقعت فى الماضى ليبرر عجزه أو توقفه لمصالحه الضيقة عن تقديم الدعم للقضية الفلسطينية. مناسبة الحديث الذكرى الـ102 لوعد بلفور المشئوم، وتدشين الاستعدادات العملية لأول انتخابات فلسطينية منذ 14 عاما تقريبا. فهل يمكن أن نستخلص دروسا من التاريخ تحصننا من الزلل، ونحن نقف أمام مفترق طرق الانتخابات مطلع 2020؟
تاريخيا مهد لوعد بلفور ضعف وتخاذل السلطان التركى عبد الحميد الثانى بصفته آخر من كانت له سلطات فعلية قبيل الانتداب البريطانى، ففى هذه المرحلة تم السماح للصهاينة، رغم خططهم وأطماعهم المعلنة فى فلسطين، بهجرتين جماعيتين (الأولى والثانية من 1881 ـ 1914) لفلسطين وتم السماح لهم بتشييد مستعمرات ومؤسسات خدمية كالبريد، والمدارس والمستشفيات، وكان من غير المنطقى أن يستقبل السلطان هرتزل مرارا بحفاوة ويمنحه وساما ويكلف الصدر الأعظم ووزير الخزانة بمقابلته ومناقشته فى خططه ومطالبه التى سبق أن دونها فى كتاب وأعلنها فى مؤتمرات، بدلامن أن يلقى القبض عليه لسعيه للاستقلال بأحد أقاليم الخلافة. وهنا يمكن الربط بالوقائع التى اكتنفها اللغط كذلك مثل قرار قبول التقسيم وحجم بيع الأراضى للصهاينة، حيث يمكن القول إن الظروف والملابسات وقت وقوع الحدث تجعل من غير الانصاف تقييمه وفقا لمعطيات اليوم. فهل يمكن تجنب هذا الجدل والندم المكتوب عند التحضير للانتخابات التى وعد بها الرئيس أبو مازن فور عودته من الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ لقد دخلت الانتخابات الفلسطينية بالفعل منعطف الحسم بعقد اللجنة المركزية للانتخابات اجتماعات مكثفة ماراثونية، لكن يبقى السؤال هل سترتكز الانتخابات على الحل السلمى أم على خيار المقاومة؟ أم سنجد أنفسنا أخيرا أمام صيغة توافقية مقبولة لدى كل الفصائل؟ وهل يمكن بالفعل أن تكون الانتخابات رافعة لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الممتد منذ عام 2007؟ أم سنواجه على أرض الواقع إقرارا ضمنيا بالانقسام إلى ما لا نهاية؟ الإعلام الإسرائيلى من جانبه عبر عن دهشته من الاتجاه نحو تنظيم الانتخابات (فى فبراير المقبل وفقا لتقديرات مصادر مطلعة) وزيارة لجنة الانتخابات المركزية لقطاع غزة بعد أن كانت الأبواق الإسرائيلية تروج إلى أن التلويح باجراء انتخابات هو عملية ضغط من جانب الرئيس أبو مازن على حركة حماس وليس أكثر. كما كثفت وسائل الإعلام الإسرائيلية وهى تحت السيطرة المباشرة لنتنياهو ولمجموعة من رجال الأعمال المقربين منه من هجماتها على السلطة الفلسطينية وأنشطتها وأسراها فى السجون. وكأنه تمهيد لقبول الرأى العام الإسرائيلى بحماس كطرف تفاوضى طالما أن الطرف الموقع على أوسلو تأكد تشدده.
وبالاضافة للدور الإسرائيلى المباشر الساعى للتدخل فى رسم خريطة الانتخابات، يجد المراقب أن لإسرائيل أيضا دورا غير مباشر، متمثلا فى الدور القطرى الذى يتم من خلال محمد العمادى المندوب القطرى شبه المقيم فى غزة الذى زار قيادات من حماس فى الضفة الغربية للمرة الأولى مطلع الشهر الحالى، وحثهم على قبول المشاركة فى الانتخابات.. وسط تحركات تركية موازية تسعى للتأثير على مسار الانتخابات وفقا لأجندتها وليس للضغط على إسرائيل واجبارها على عدم منع الانتخابات فى القدس الشرقية على سبيل المثال لا الحصر.
فى المقابل اعتبرت قيادات فلسطينية سابقة أن العائق الرئيسى أمام عقد الانتخابات التشريعية أولا هو استمرار أبو مازن فى منصبه مؤثرا فى انتخابات الضفة وحركة حماس فى مواقعها مؤثرة فى الانتخابات فى غزة، وأن الصواب هو تعيين رئيس مؤقت، وتخلى حماس عن السيطرة على غزة، وهو حل غير مقبول فى الوقت الراهن. بينما يترقب الجميع موقف محمد دحلان ومروان برغوثى، حيث من المتوقع أن يقدما مرشحين من أنصارهما مما يضعف مرشحى حركة فتح.
التعقيدات والمخاطر التى تكتنف مسير الانتخابات الفلسطينية المرتقبة على هذا النحو ظاهرة وعلنية والمطلوب الآن هو عدم تكرار أخطاء الماضى والنظر للأمور نظرة شاملة تقوم على إنكار الذات، ورفض وسطاء يمثلون مصالح إسرائيل ويدافعون عنها بكل همة، وإن زعموا العكس عبر أبواقهم الإعلامية، ومؤتمرات لدغدغة المشاعر، مطلوب أن تتوحد الصفوف لانجاز ممر آمن بين الضفة وغزة وفقا للاتفاقيات المبرمة، وليس رضوخا للانقسام ولجدارة سلاح جيش الاحتلال، ووقف فورى للحملات الإعلامية ضد المعسكر الفلسطينى المنافس، وفى المقابل موقف أقوى إزاء ملف الأسرى، والمقدسات المنتهكة. فبدون منح الأولوية لقضايا كتلك تجمع ولا تفرق.. قد تقود المسيرة الحالية لما لا تحمد عقباه ولتكرار أخطاء تاريخية فادحة.
لمزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور رابط دائم: