رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الجد والأسباط السبعة

أحمد عامر عبدالله;

> ربنا يجعل يومى قبل يومك

دعت بها وهى تمسح دموعها بيدها اليسرى، وتضغط باليمنى على جبينه بالفوطة المبللة لعلها تخفض حرارة جسده.

كانت تعلم بفطنتها أن المريض تحفه الملائكة، فرمت دعوتها بنية خالصة، وما هى إلا أيام حتى تعافى وعاد لسيرته الأولى.

كان جمال أو «المتيم» كما أطلق عليه أهل القرية، يكبر «مريم» بخمسة وعشرين عامًا، ولولا جمالها لظل مخاصمًا الزواج أبدا.

عندما أتاها المخاض فى ولادتها الأولى، تعبت تعب موت، فهى لم تكمل السادسة عشرة بعد، فدعا «المتيم» ربه:

- اللهم اجعل ذريتى منها بناتا تشبهها

فاخترقت دعوته أبواب السماء، ورزق منها بخمس من الفتيات.

عاشا معًا تسع سنوات إلا بضعة أشهر، وقبل أن يخطو أولى خطواته فى عامه الخمسين، مرضت بشدة، فطلبت منه أن يحملها على ساعديه ويصعد بها إلى سطح المنزل لكى تحدث «القمر» كعادتها فى ساعات الصفا.

لبى طلبها، وأعد لها فراشًا ناعمًا، وتمدد قبلها، وجعل ساعده الأيمن وسادتها، وكان الاثنان ينظران لأعلى فى صمت، فليس بينهما وبين السماء حجاب، حدثته فى تلك الليلة عن عشقها للقمر، وأن جماله فى اكتماله، وهنا شعر لأول مرة بثقل رأسها.

لم يعلم أن خطاه على «درج» البيت وهو صاعد بها كانت تقربها إلى السماء أكثر، وتركته وحيدا أربعين عامًا كما عاش قبلها.

تصادف لقاء الأسباط السنوى بجدهم مع ليلة قمرية وما أدراكم ما الليلة القمرية التى تذكره بما فات - فبعد أن بلغ مائة عامًا إلا عشرة، أصبح أخذ عصير تجربته الحياتية أمرا ملحًا، فلا أحد منهم يضمن أن يعيش القادم.

بعد أن أطفأ الشمعة التسعين، تجمعوا فى خلاء البيت، التف حوله سبعة أسباط- تنحت الفتيات جانبا - يعرفهم جدهم بالترتيب الرقمى، فجميعهم ولدوا على يده من بناته الخمس، فاجأ السبط السابع الأصغر سنًا - الجمع عندما قال:

> حدثنا عن الحب يا جدنا.

مال الجد ميلة صغيرة ليتكئ، وقال بصوت هادئ يكاد يسمع: كنت كلما أكبر فى العمر، يصغر عمرها فى نظرى فأخاف عليها أكثر، ثم صمت، فقالوا جميعًا: أكمل أكمل، قال: ما خبرتى الدنيا غير ذلك، وما دونه كذب.

بعد أن أنهى الجد حديثه، شعر الأسباط أنهم يريدون معرفة المزيد عن ذكريات جدهم مع جدتهم.

قال السبط الثالث بصوت جهور:

> يا جدنا، أخى الأكبر لديه سؤال.

> تفضل.

ارتبك السبط الرابع وهو ينظر إلى الثالث مبتسما من شدة الغيظ:

> خبرنا عن الورد فى زمانكم؟

شبك الجد أصابع كفيه، وعقدها خلف رأسه، ومال بجزعه قليلا حتى تلاقت عيناه مع ضوء القمر:

منذ رأيتها، لم أعد أجلب وردا تقليديا، كنت أبحث من أجلها عن صباح جديد كل يوم، صباحا مختلفا كلون عينيها، أنظر فى مئات الزهور لاختار أجملها، أنزع منها الأشواك، وأغلفها بجملة كانت تحبها، فهى لم تكن فتاة عادية لأقول لها كلمات مستهلكة كصباح الخير، ولكن اخترت لها كلمات جعلت اسمها أجمل من الخير والنور وطوق الياسمين.

واستمر الجد فى نظراته لضوء القمر وكأنه يشاهدها تتقاذف على أغصان شجر الجنة، وغلف الصمت المكان، فلجأ السبط الأول إلى حيلة لقطع تفكير الجد، وقام بضرب كفه اليسرى على ظهر ابن خالته الجالس بجواره، فرمقه الجد رمقة حادة، فقال السبط:

> أذكره بدوره فى السؤال لا أكثر.

لملم السبط المضروب الكلمات ليكون منها جملة:

> كيف كنت تفرحها؟

ضحك الجميع من سطحية السؤال، ولكن الجد لم يضحك، فساد صمت حذر، منتظرين فراغه من فرك عينيه.

نظر الجد إلى السبط السائل، وأطال النظر- فتنفسوا جميعا شهيقا وزفيرا- حتى نطق: سر سعادة المرأة يكمن فى المجهود المبذول لأجلها، فإذا أحضرت لها قطعة حلوى صغيرة تحبها من مكان بعيد يسر قلبها وتضحك عيونها، وأنا كنت أسير آلاف المترات لأحضر لها أشياءً «صغيرة» كانت تحبها.

هنا سحب الخامس بساط الحديث من جده بسؤال هز أرض المجلس من أسفلهم:

> صف لنا جمالها؟

تنهد الجد عدة تنهيدات مكتومة: كانت جدتكم فتاة «خضرا» فى كل شىء، خضرا الجسد والقلب، خضرا الحديث، حتى روحها كان يكسوها الخضار من كل جانب.

اتسعت عيون الأسباط حتى كادت تخرج من وجوهم، وهمس السبط الشقى فى أذن السبط السادس:

> قوله ينزل بالترجمة؟

فضحك السادس ضحكة جعلت الجد يقطب جبينه: ما المضحك؟ رد السادس بسرعة: يقول انك ما زلت أخضر مثلها يا جدنا.

لم يجد السبط الثانى مفرا إلا الحديث حتى يهدئ من غضب جده ويلطف الأجواء التى كادت تفسد فى يوم عيد ميلاده، فدنا من جده وجثا على ركبتيه وقبل يده معتذرا، فتبسم الجد، وقال: أليس لديك سؤال أنت أيضا، قال:

> كيف عشت بعد فراقها؟

هز السؤال كيان الجد وهو ينظر فى عينى السبط قال: انك تنثر الملح على جرح قديم، الأرواح لا تفارق، الأرواح تعيش فينا، ومنذ أن فارق جسدها الأرض، لا أدرى ان كانت روحها معى فى جسدى، أم روحى معها فى الجنة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق