تكريم المخرج الكبيرومنحه جائزة فاتن حمامة من مهرجان القاهرة القادم قرار ذكى
أسلوبه يحاكى الصقورفى طبيعتها الوعرة وقدرتها على اقتناص الفرص
فى المرات التى صادفت فيها المخرج الكبير شريف عرفة، وتحديدا المرة التى التقيته عند الكاتب المبدع المخضرم وحيد حامد، كان عرفة يقبل بخطوات واسعة واثقة، وهى الثقة التى انعكست أيضاً فى جلسته وطريقة حديثه. يطرح تساؤلاته بطريقة واضحة بجمل لا تعرف الاسترسال. يستمع أكثر مما يتحدث، وكأن هناك شخصا آخر بداخله لديه مهمة أخرى فى نفس اللحظة، فهناك شريف الحاضر بجسده وعقله، وشريف آخر يسجل ويصنع شريطاً موازياً من التفاصيل المحيطة، وعندما تجلس إليه يصعب عليك أن تعرف هل يحبك أم لا ولكن من تفاصيل صغيرة قد تدرك أنه يقدرك.
...........................
شريف عرفة المبدع وصاحب الإنتاجات المتنوعة والمتميزة، ابن المخرج المهضوم حقه سعد عرفة، والذى يتم تكريمه فى الدورة الـ 41 لمهرجان القاهرة السينمائى التى تعقد فى 20 نوفمبر الجارى، بمنحه جائزة «فاتن حمامة» التقديرية. وهو التكريم الذى يأتى فى وقته.
يعد تكريم عرفة اختيارا شديد الذكاء من محمد حفظى رئيس المهرجان خصوصا أن عرفة لا يزال فى قمة عطائه، وهو مخرج لا يعرف سوى العمل فقط، وتنوعت تجاربه وأفلامه السينمائية ما بين الكوميدية والسياسية والاجتماعية وأفلام الفانتازيا والأكشن والتاريخية.
عادة ما تجمع أفلام عرفة بين القيمة الفنية والقدرة على تحقيق إيرادات، وهو لا يتواجد كثيرا على المستوى الإعلامى، فهو ينجز عملا أو يستعد لجديد. على مدار 30 عاما منذ أن بدأ العمل فى الإخراج السينمائى، والكتابة، والإنتاج.
شريف صاحب وجه حاد الملامح، من يطيل النظر إلى وجهه ويتأمل ملامحه وتحديدا عينيه اللتين دائما ما تنظران بحياد، يستدعى فورا طائر الصقر، وهو أحد الطيور الجارحة المعروف عنه المهارة فى الصيد، والذى يمتاز أيضا بمهارته الفائقة فى التحليق والطيران؛ لأنّه يمتلك جناحين مدببين يسمحان له بتغيير اتجاهه بسرعةٍ كبيرةٍ أثناء طيرانه، وهو حاد الذكاء.. تلك المواصفات تنطبق إلى حد كبير على مخرجنا المبدع ومشواره، عرفة الذى ولد لأب يعشق السينما والإخراج السينمائى، منزل مليء بأحاديث عن السينما والاستعداد لمشروعات، والد يحلم بإنجاز الكثير، ومكتبة كبيرة متنوعة، يقرأ فيها روايات كلاسيكية وبنفس الحماس يلتهم مجلات الأطفال وكتب الألغاز والمغامرات..
فى ظل تلك النشأة رغب عرفة فى العمل بنفس مهنة والده، إلا أن والدته لم تكن تؤمن بهذا المجال فكانت كأى أم تريد لابنها الأكبر أن يصبح طبيبا أو مهندسا شهيرا، ولكن كان لوالده دور كبير فى دعمه وتشجيعه، بعد أن التحق بالمعهد العالى للسينما، ومن حسن حظه أنه تتلمذ على يد كبار أساتذة الإخراج السينمائى فى المعهد وكان منهم الفنان محمود مرسى والذى درس له لمدة ثلاث سنوات إلى جانب عمالقة الفن ما جعله يستفيد كثيرا من خبراتهم الطويلة، هذا إلى جانب عمله كمساعد مخرج للعديد من مخرجينا منهم سعد عرفة وحسن الإمام ومحمد خان، واشتغل فى أكثر من ثلاثين فيلماً فى أثناء دراسته بالمعهد، إما كمدير للإنتاج أو مخرج مساعد، وتخرج فى المعهد العالى للسينما فى القاهرة عام 1983، وبنفس إحساس الصقر الذى يقف ليراقب، كان عرفة يتحرك داخل الاستوديوهات ومواقع التصوير يعرف أن هؤلاء المبدعين ينجزون أعمالا مميزة تملك سحرها الخاص، إلا أنه كان يبحث عن شيء مختلف يرضى طموحه ويتماشى مع رغبة هذا الصقر الجامحة فى التحليق طوال الوقت لأنه ببساطة كان يسأل نفسه لماذا يصنع أعمالا تحاكى أعمال من سبقوه، لماذا لا يكون عنده فضاؤه الخاص؟.
بنفس حماس وروح الصقر الذى يبنى العش الخاص به بداخل الشعاب الصخرية، أو فى الشجر، وأحيانا أخرى على الأرض، وعادة ما تكون هذه الأعشاش مبنيّة من العصى أو الأعواد، وفى بعض الأحيان تكون هذه الأعواد داخل أعشاب أو مواد نباتيّة مختلفة، صنع عرفة عالمه المتنوع شديد الاختلاف.
المرحلة الصخرية
اختار عرفة فى أولى تجاربه السينمائية التى قدمها فى عالم الإخراج، أن ينحت عشه -نقصد فيلمه - فى الصخر، وقد كان باكورة أعمال شريف عرفة كمخرج عام 1986، مع زميله السيناريست ماهر عواد.. عرفة وعواد فى تلك المرحلة كانا يملكان رؤى مختلفة للسينما أو ضرورة تقديم فيلم مختلف بعيدا عن السينما التى كانت رائجة فى هذا الوقت، حيث شهد هذا العام العديد من الأفلام الهامة لمخرجين جدد متميزين ومن هذه الأفلام «الطوق والأسورة « لخيرى بشارة، و «الجوع» لعلى بدرخان، و«البرىء» لعاطف الطيب، و«عودة مواطن «لمحمد خان، وغيرها من الإنتاجات الهامة، إضافة إلى الأفلام التجارية وأفلام المقاولات، وقدم عرفة وعواد فيلمهما الأول «الأقزام قادمون»، وكان تجربة جديدة وجريئة، لم تحقق النجاح الجماهيرى وقتها بل ان البعض لم يستوعب تلك التجربة، وكيف لمخرج وكاتب فى فيلمهما الأول ألا يعتمدان على فكرة تجارية أو نجم ونجمة ليقدما نفسيهما إلى السوق السينمائية، بل كان أبطالهما من الأقزام إلى جانب النجم يحيى الفخرانى، والفيلم حمل إدانة واضحة لمجتمع الاستهلاك، ومافيا الإعلانات التجارية التى تسعى إلى تجميل الزيف.. ورغم عدم تحقيق الفيلم الأول لنجاح كبير، إلا أن عرفة وعواد واصلا العمل فى نفس الخط وكأنهما يصران على النحت فى الصخر وتحريك المياه بأماكن أكثر وعورة حيث قدما فيلمهما الثانى «الدرجة الثالثة - 1987» والذى حمل رؤية فانتازيا حول الصراع الأزلى بين شريحة أصحاب المال والسلطة والمهمشين أو أولئك الذين يعيشون على هامش الحياة وذلك من خلال تلك العلاقة بين جمهور الدرجة الثالثة لكرة القدم وبين أفراد المقصورة الرئيسية أصحاب السلطة والنفوذ، والفيلم منى بفشل ذريع فى دور العرض السينمائى، رغم أنه كان من بطولة النجمين أحمد زكى وسعاد حسنى، وكان عدم نجاح الفيلم وإحباط النجمة سعاد حسنى، كفيلا بأن يجعل عرفة يتوقف عن تقديم سينما مغايرة، ولكنه واصل تجربته الثالثة مع رفيق البدايات ماهر عواد وبداخله يقين بأن تلك التجارب ستعيش وسيعاد قراءاتها سينمائيا بشكل مختلف فقدما الفيلم الثالث «سمع.. هس - 1990»، والذى اعتبره المخرج خيرى بشارة بداية فعلية لعصر جديد للسينما المصرية، وكان المخرج يسخر فيه من الوطنية الزائفة واستغلال البسطاء حيث صار بطلا الفيلم « حمص وحلاوة»، من أشهر الشخصيات السينمائية إضافة إلى نشيد «أنا وطنى وطنى وبطنطن»، والفيلم ينتمى للكوميديا الاجتماعية والفانتازيا الاستعراضية. وما بالك عندما يكون الاستعراض والغناء من بطولة ممدوح عبدالعليم، وليلى علوى وهو الاختيار الذى يعكس مدى جموح عرفة وعواد ورغبتهما فى القفز بعيدا عن المعتاد والدارج.
الأرض الثابتة
وبعد تلك المرحلة أدرك عرفة أن عليه أن يبدأ مرحلة جديدة، وأن تكون هناك أرض ثابتة يصنع فيها عشه القادم أو أفلامه الجديدة، بعيدا عن الرغبة فى التحليق بعيدا وتحدى الثابت ومحاولة زحزحته، حيث شكل لقاؤه بالكاتب المبدع والمتنوع أيضا وحيد حامد مرحلة جديدة فى مشوار عرفة السينمائى، والذى كان يعى جيدا أهمية تلك الانطلاقة المختلفة، حيث قدم الثلاثى «حامد وإمام وعرفة» عددا من الأفلام التى تملك حسا كوميديا وسياسيا واجتماعيا ساخرا بدءاً مع «اللعب مع الكبار» فى 1990، مرورا بـ»طيور الظلام، والإرهاب والكباب، والمنسى»، وهى الأفلام التى حققت نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، ولكن صفة التحدى التى تجعل الصقر يحن إلى صعوبة بناء عشه فى الصخور، وهو ما جعل عرفة يعود للعمل مع ماهر عواد بعد «اللعب مع الكبار» ويقدم واحدا من أهم أفلامه وهو «يا مهلبية.. يا» والذى يطرح من خلاله رؤية فانتازيا عن النضال السياسى فى فترة الأربعينيات، وذلك من خلال سيناريو بديع ضمن استعراضات متميزة تشكل بعدا هاما فى التطور الدرامى بالفيلم، من خلال كلمات بهاء جاهين التى تضيف للمعنى الدرامى والبصرى للفيلم وموسيقى مودى الإمام التى تعطى أفقا ورحابة لخيال عواد وعرفة الجامح.
فى ظل التحولات التى شهدتها السينما المصرية فى منتصف التسعينيات، وتحديدا فيلم «إسماعيلية رايح جاى»، والذى قلب موازين السوق السينمائية على مستوى الموضوعات وظهور نجوم جدد، وصراع جيلين ظل واحدا منهما «جيل عادل إمام، ونور الشريف، ونجمة الجماهير نادية الجندي» كان من الممكن أن يتخذ عرفة قرارا بالابتعاد عن تقديم سينما تحاكى ما يحدث مكتفيا بدوره كمنتج ومخرج إعلانات، إلا أنه كان يملك ذكاءً حاداً، وترمومتر تمكن من خلاله أن يتواجد ليس فقط، ولكن بقوة، وقدم كوميديا متميزة تعتمد على المواقف «الناظر، وعبود على الحدود»، كوميديا خالصة ودراما اجتماعية نابهة «اضحك الصورة تطلع حلوة»، والأكشن فى «مافيا»، «والجزيرة» بجزأيه، وتربعت العديد من إنتاجاته على عرش الإيرادات ثم توالت إبداعاته مرورا بـ»الكنز بجزأيه»، ووصولا إلى فيلم «الممر» والذى نال عنه عرفه العديد من التكريمات.
عرفة ليس فقط مخرجا صاحب أسلوب سينمائى مميز، وأفلام تحمل متعة فنية وبصرية، ولكنه بات أيضا مؤسسة سينمائية حيث أطلق العديد من النجوم ومنهم
كريم عبدالعزيز، ومنى زكى، ومحمد سعد، إلى جانب عمله مع كبار النجوم والذين قدمهم بشكل مختلف، وتتلمذ على يده العديد من المخرجين الشباب ومنهم مروان وحيد حامد وأحمد علاء وغيرهم.
رابط دائم: