تبدو بعض المجتمعات العربية أكثر حيوية من الطبقات السياسية الحاكمة، من حيث الطموح فى سعيها إلى إحداث تحولات سياسية واجتماعية كبري، وذلك قبل انتفاضات ما سمى الربيع العربى المجازي، وعقب اضطراباته، واختلالاته، ونكوصه عن تحقيق غالب هذه الرغبات الجمعية، وذلك لأن غالب القوى المطالبة بالتحولات، لم تكن لديها من الرؤى السياسية، والرأسمال الخبراتي، والتكوين ما يسمح لها، بإدارة عقلانية وخيال سياسي، يسمح لها بأن تمسك بزمام الأمور فى المجتمع المنتفض وتوجهه نحو التماسك والعزم السياسى على التحول، ويرجع ذلك إلى أن الأجيال الشابة الجديدة، ومعها بعض بقايا الجيل الأكبر سنا، يفتقرون إلى المهارات والأخيلة السياسية، وثقافة الدولة فى ظل نمط من الدول الوطنية الهشة ذات الجذور القبلية العشائرية والمناطقية والمدنية والمذهبية، وذلك على نحو ما تم فى تونس وسوريا، واليمن، وليبيا، والسودان. أنظمة سياسية تسلطية، توارثت السلطة داخل بعض القبائل الكبري، أو بعض النخب والبيوتات الطائفية، أو المذاهب الدينية، أو المناطقية، فى ظل ظاهرة تاريخية تمددت فى الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال تمثلت فى موت السياسة، فى ظل سياسات قمعية داخلية إزاء قوى المعارضة السرية، أو المعلنة والتابعة للسلطة الحاكمة. كرست السياسة التعليمية ومناهجها وموادها المقررة على نمط من الثقافة السياسية التسلطية والشمولية التى كرست الاتباعية والخضوع والإذعان للدولة التى اختزلت فى السلطة التى تم اختزالها فى الحاكم ومجموعات القوة والمصالح الحزبية حوله، على نحو أدى إلى إشاعة قيم النفاق، والازدواجية والكذب.
ساند هذا النمط من الثقافة السياسية الشمولية، والتسلطية، تركيبات اجتماعية مساندة للأقليات الحاكمة فى بعض هذه الدول، والأخطر بعض المؤسسات الدينية الرسمية، الداعمة للسلطة، وخطاباتها السياسية أيا كانت تناقضاتها، والتباساتها، فى نمط من التسلطية الدينية التابعة للتسلطية السياسية الحاكمة. من هنا خرجت بقايا الاجيال كبيرة السن، والأجيال الشابة، من معطف اللاسياسة الواقعية، وتعددياتها وصراعاتها وخبراتها السياسية، ومؤسساتها، بقطع النظر عن الثقافة السياسية النظرية الليبرالية، والقومية، والماركسية، واليسارية، والإسلامية، للأجيال الهرمة أو الشابة، وبعض الكبار والشباب، لا تتعدى خبراته سوى التكوين الأيديولوجي، أو الثقافى النظري،
الانتفاضات الجديدة فى العراق ولبنان، تبدو بالغة الأهمية لوهلة، خاصة فى نظام بريمر القائم على المحاصصات المذهبية والقومية ــ الشيعة والسنة والأكراد- ونمط من الفساد الهيكلى المعمم الذى تمدد فى كل أجهزة الدولة، وبين الطبقة السياسية الحاكمة، والذى وصل إلى مستويات بالغة الخطورة على الاقتصاد العراقي، فى ظل تمدد ثقافة مذهبية انقسامية، وتبعية للنظام الإيراني، والوجود الأمريكي، ولبعض دول الخليج وشبه الجزيرة. فساد واسع النطاق، واتساع لدوائر الفقر والبطالة لاسيما بين الشباب، ونمط من الزبائنية المذهبية والمحسوبية مسيطر على الدولة، والأخطر فشل الطبقة السياسية وأركانها الثلاثية، فى إدارة شئون البلاد، والمجتمع، وسياساتها الخارجية التابعة. فشل ناتج عن غياب الخبرات السياسية والإدارية، والأخطر الدور المحورى الذى تلعبه طبقة المرجعيات الدينية لاسيما الشيعية، فى الأمور السياسية المخصصة، وفى تعبئة التابعين لها، من السنة أو الشيعة. من هنا شكلت الانتفاضة العراقية علامة على إمكانية إحياء مفهوم الوطنية العراقية العريق، العابر للمناطقيات والمذهبيات والقوميات، وإمكانية تأسيس مفهوم للمواطنة العراقية، وكذلك للتحرر من النفوذ الإيراني، أو لبعض الدول النفطية السنية.
الانتفاضة اللبنانية، أبرز معالمها أنها عابرة لنظام طائفى راسخ أسسه الاستعمار الفرنسى البغيض، الذى كرس لبنية من الأزمات الكبرى المتكررة، وإلى نزاعات وحروب أهلية دامية، وإلى طبقة سياسية طائفية فاسدة تعيد إنتاج ذاتها، عبر الطائفة والنظام وعلاقاته، على حساب إمكانية بناء دولة وطنية موحدة، تؤسس للموحدات الوطنية الجامعة، فى إطار المواطنة. نظام طائفى ساهم فى هشاشة وضعف الدولة اللبنانية، وكرس النفوذ الدولى والإقليمى داخل النظام الطائفي، ومن خلال قادة الطوائف، وطبقة تابعة من رجال الدين الطائفيين، يكرسون ثقافة الطوائف من خلال خطاباتهم الدينية السياسية الطائفية، وتبعية هؤلاء وقادتهم الدينيين، وقادة الطوائف إلى أشكال من الدعم الخارجي، على نحو أدى إلى هشاشة التوازن الطائفى إلى المحاور وتغيرات التوازن الإقليمي، والأخطر عدم القدرة على إحداث إصلاحات فى تركيبة النظام الطائفي، الذى أدى إلى التوريث العائلى داخل الطوائف، وإلى تمدد وتأصيل الفساد المروع من فرط تزايده وتفاقمه، مع قيادات طائفية سياسية هرمة، وقادة شباب محدودى الخبرات والمهارات استطاعوا مراكمة ثروات ضخمة وتفوق الخيال من الفساد ومحاصصاته، بالإضافة إلى نفوذ حزب الله التابع لإيران، وسطوته القائمة على سلاح خارج الدولة، واقتصاد أسود يعتمد على التهريب، والمحاصصات.. إلخ. من هنا تشكل الانتفاضة اللبنانية العابرة لغالب الطوائف نقطة تغير أولية فى مواجهة قادة النظام الطائفي، إلا أنها تفتقر إلى الرؤية والتنظيم والقيادة، على الرغم من حيويتها وطابعها الكرنفالي، لكنها لا تمتلك رؤى تتجاوز النزعة الإصلاحية الجزئية.
لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح رابط دائم: